IMLebanon

لا بُدّ من صحوة عربيَّة على قدر التَّحديات الراهنة

 

إنّ ما استجدَّ على السَّاحتين الدَّوليَّة والإقليميَّة من تطوّرات مُتسارعة، حملَ في طيَّاته الكثير من المخاطر في شتى المجالات الجيوسياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والعلميَّة، وضعت أمتنا العربيَّة أمام تحدِّياتٍ جِسام، يقتضي التَّصدي لها لتوقي مَضارها والحدِّ من مَخاطرِها الظَّرفيَّةِ والإستراتيجيَّة.

في الواقِعِ إن التَّحوُّلاتِ المُشار إليها ليسَت وليدَةَ السَّاعة، ولم تتأتى من العدم، إنَّما هي وليدَةَ تحوُّلاتٍ تتالت مُنذ رَدحٍ من الزَّمن، وبالتَّحديد منذ انهيارِ الاتِّحاد السوفييتي عام 1991، حيث اختلَّت مُرتكزات التَّوازن والاستقرار العالميين بتفرُّدِ الولاياتِ المُتَّحِدَةِ الأميركيَّة في قيادة العالم ومُحاولَةِ تنصيب نفسِها كشُرطي دولي، وعدم اكتفائها بهذا القدر بل سعت إلى تقويض مقدِّراتِ الاتِّحادِ الروسي الوريث الشَّرعي لخَصمِها المُنهار، كما راحت بعيداً في الاقتصاصِ من النُّظم السياسيَّةِ التي كانت تدور في فلكه، سواء في أوروبا الشَّرقيَّة أو في جنوب القارة الأميركيَّة أو في منطقة الشرق الأوسط، كما عملت جاهدة لاستمالة شعوب معظم الدول التي انفصلت عن الاتحاد السوفييتي وتغيير عقيدتها الإيديولوجيَّة والعسكريَّة ودفعها نحو الليبراليَّة، كذلك عملت على تفكيك وتقويض المُقدرات العَسكريَّةِ لدول أوروبيَّة الشرقيَّة التي كانت سنداً للاتحاد السوفييتي كتشكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا، ولم تَسلم منها دُولٌ عربيَّةٌ كانت تلقى دَعماً سوفييتيًّا كنِظام صدَّام حسين إذ أقامت مع حلفائها حلفًا عسكريًّا وأسقطته بالقُوَّة وحلَّت جيشه، وكذلك أسقطت وعملت على إسقاط نُظُمٍ أُخرى، باعتمادِها تكتيك الثَّورات الداخليَّة وتقليب الشعوب على النُّظم القائمة تحت رايَة ما سُمّيَ بالربيع العربي، ومنها نظام معمر القذافي وحسني مبارك وبشَّارِ الأسد في سوريا، وغضَّت الطَّرفَ عن إسقاط نِظام علي عبد الله صالح… كل ذلك بغرضِ تفتيت وفرز شعوب تلك الدُّول مذهبيًّا وعِرقيًّا.

 

هذه الممارسات الأميركيَّة المدعومة من دول حلف شمال الأطلسي دفعت ببعض الدُّول المناهضة لتوجهات حلف شمال الأطلسي للتوجُّس من النوايا الأميركيَّةِ المبيَّتة، فسعت جاهدةً إلى إعادة تكوين مقوماتها الاستراتيجيَّة العسكريَّة والاقتصاديَّة وتداعت إلى التعاون في ما بينها للتخلُّص من وطأةِ النِّظام العالمي القائم على أحاديَّة السَّيطرة، وإحلال نظامٍ آخر يقوم على التَّعدُّديَّة القطبيَّة، ويقودُ هذا التَّوجه الجديد كل من الصين وروسيا، ويقفُ خلفهُما عددٌ من الدُّول الرافضة للهيمنة الإمبرياليَّة أمثال كوريا الشماليَّة وفنزولا وكولومبيا وإيران، وهذا ما دفع بالولايات المتحدة الأميركيَّة إلى إشغال روسيا في عقر دارها، ودفعِها للإنزلاق إلى حرب مباشرة مع جارتها الأكبر أوكرانيا، موفرة كل الدَّعم للأخيرة بغرض إطالة أمد الحرب واستنزاف روسيا عسكريَّا واقتصاديَّا.

 

وبموازاة ذلك أُطلِقَت يد إسرائيل في منطقة الشَّرق الأوسط، فأخذت تُصعِّدُ من نمطِ ووتيرَةِ اعتداءاتها على الفلسطينيين، كما على دولِ عربيَّةٍ مجاورة، ساعيةً إلى تحقيق مشروعها التَّوسعي، بالإجهاز على أعدائها وتصفية حساباتها معهُم الواحد تلو الآخر، تارة باجتياحات بريَّة وتارة أخرى بعمليات إرهابيَّة، وطوراً بقصفٍ جوي مُدمِّرِ وطَوراً آخر بتنفيذ اغتيالات وعَمليَّاتٍ نوعِيَّةٍ وتَجسُّسِيَّةٍ مدروسة.

استغلَّ النِّظام الثَّوري الإيراني سقوط نظام صدَّام حسين وانحسار الاهتمام العربي بفلسطين، نتيجةَ حالة الوهن التي أصابت عدداً من الدُّول العربيَّة، نتيجة التَّشتت والضَّياعِ والتَّقاتُلِ الدَّاخلي التي انتهت إليها ثورات الرَّبيع العربي، للإمساك بورقة القضيَّة الفلسطينيَّة منصِّبًا نفسه المُدافِعَ الأوحد عن المُقدَّسات الإسلامِيَّة، ودخل على خطِّ المُواجَهَةِ من بابِها العَريض، مُستغلًّا التَّنظيمات الراديكالِيَّة المذهبيَّة التي أنشأها في كل من لبنان والعراق واليمن وسوريا كما استمالته لبعض المُنظَّماتِ الإسلاميَّة الفلسطينيَّة وتقليبِها على مُنظَّمة التَّحرير الفلسطينيَّة، ودعم كل تلك التَّنظيماتِ سياسيًّا ولوجِستيًّا ومَدَّها بالأموال والأسلحة النَّوعيَّة، والتي استطاعت بواسطتها مناوأة الكيان الصَّهيوني وإنزال ضربات موجعة به، ودفعِه للإنسحابِ من لبنان، والتنازل عن إدارة قطاع غزَّة لصالح منظمة حماس، بعد أن كان قد تنازل عن إدارته والضفة الغربيَّة لمُنظَّمةِ التَّحريرِ الفلسطينيَّة استجابةً لما خلُصَت إليه مفاوضات أوسلو التي أجريت ما بين مُنظَّمةِ التَّحريرِ وإسرائيل برعايَةٍ أميركيَّة.

 

إن المُجتمع الدَّولي بأسره يتخبَّطُ تحت وطأة التَّناقُضات في التَّوجهات الجيوسياسية للأقطاب الفاعلين دوليًّا وإقليميًّا، إلَّا أن عالمنا العربي بعيدًا عن صناعة القرار، لكونه يعيشُ مَخاضاً عسيراً بعد أن تكالبَ عليه الأعداء والخصوم، وكأنه لم يكفه ما عاناه من الإحتلالات وموجات الاستعمار الغربيَّة سابقاً، وتفتيته بموجب اتفاقيَّة سايكس بيكو عام 1916 ووعد بلفور المشؤوم عام 1917، ليكون عرضةً اليوم لمخاطرَ لا تقلُّ عنها جَسامةً وخُطورة، وربَّما من ذات المصادر السَّابقة، نتيجة مكائد مبيَّتة وطموحات بعضِ الدُّول الطامحةِ باستعادة أمجاد أمبراطوريَّاتها السَّابقة. وهذا ما يدفعنا لتنبيه كبار القادة العرب إلى أهميَّةِ وعي جسامة المخاطر الجيوسياسيَّة المحدقة بالأمَّة العربيَّة، والتي تضعُهُم مجتمعين أمام تحدِّياتٍ جِسام، وإذ لَّا مفر من مواجَهتها مُتَّحدين، وعليهم التَّوفيق ما بين مقتضيات الأمن القومي والأمن الوطني، وهذا يملي عليهم العمل على إنهاء الصِّراعات السِّياسِيَّة القائمة في ما بينهم، والتَّنبُّه لمُخاطر الارتهان لدولٍ خارجِيَّة، أو الانخراط في مَحاورَ إقليميَّة أو دوليَّة، أو الغوصِ في متاهاتِ التَّطبيع مع الكيان الإسرائيلي.

 

إن صُّناع القرار على مُستوى العالم العربي، وفي طليعتهم القيادتين السعوديَّة والمصريَّة، مدعوون إلى ضرورة العمل على ترسيخ الإستِقرار في منطقة الشرق الأوسط برُمَّتها، بدءاً بإعادةِ الوحدةِ إلى الصف العربي، والخروجِ من هاوية التَّشرذم والتَّفكك؛ وأن أولى الخَطوات تبدأ بترتيب الأوضاع الداخليَّة للدُّول العربية، واستعادَةِ الثِّقةِ المُتبادلة بين الأشقَّاءِ العرب، تمهيدًا لتفعيلِ العَملِ العربي المُشترك وتَعزيزِه.

ومن أهم التَّحديات الدَّاهِمَةِ التي تَنطَوي على مَخاطِرَ وجودِيَّة نشيرُ لما يلي:

أ- التَّوجهات الصهيونيَّة الهادفةِ إلى إنهاء القَضِيَّةِ الفلسطينيَّة، والقضاءِ على المساعي السِّلميَّة الهادفة إلى تبني حل إنساني للشعب الفلسطيني، بتمكينه من إقامة دولته المُستقلة على ما تبقى من أرضهم التي احتلَّت عام 1967. وذلك لأونه في حال تمكن الكيان الإسرائيلي من تهجير الفلسطينيين من قطاع غزَّة أو من الضِّفَّة الغربيَّة إلى دُول عربيَّة لا شكَّ أنه سينعكِسُ سلبيًّا عليهم كما على الدُّول التي سيهجَّروا إليها، وسيقوض ذلك أيَّةَ مساعي مستقبليَّة لحلٍّ شاملٍ ودائم للنزاع العربي – إسرائيلي.

ب- التَّوجهاتِ الإيرانيَّة «الفارسيَّة الطَّابع» والهادفة للعب دور شرطي إقليمي على مستوى الشرق الأوسط، من خلال إحكام نفوذ إيران، عبر أذرعها، في عددٍ من الدُّول العربيَّة، وبخاصَّة كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن، وسعيُها لبسطِ نفوذها على دول الخليج العربي، بتحكُّمِها بالمِلاحَةِ في البحر الأحمر والمَمرات البحرية المُطلَّة عليه، مستفيدة من تعثر العلاقاتِ الأميركيَّة – الخليجيَّة.

د- التَّوجُّهاتِ التُّركيَّة الراميةِ إلى استعادة بعض من الدَّور الجيوسياسي الذي كانت تضطلع به السَّلطنة العثمانيَّة، وهذا ما يستدل عليه من التَّدخُّل التركي في شؤون كل من العراق وسُوريا وليبيا.

إن التَّحديات التي تواجهها أمتنا العربيَّة لا تقتصر على ما أشرنا إليه، إنما يُضافُ إليها سَعيُ الغرب إلى تفتيت الدُّول العربيَّة القائمِةِ حاليًّا بدءاً بالعراق مروراً باليمن وسوريا وليبيا والسُّودان والتي بدأت معالم تقسيمها تتوضَّح، وبالطَّبع لن تقتصرُ المساعي التَّقسيميَّةِ عليها بل ستطال دول أُخرى وإن بدَت الآن مُستقرَّة. وذلك تمكينًا للدُّول الإستعماريَّة من السَّيطرةِ على المنطقة العربيَّة التي تتميَّزُ بموقعها الجغرافي الوسطي بين قارَّات ثلاث، والذي يمكنها من التَّحكُّم بالعديد من الممرات البحريَّة والبريَّة الهامَّة بالنسبةِ لحركة التجارَةِ الدَّولِيَّة، هذا بالإضافةِ إلى الرغبةِ في الإستيلاء على مقدِّراتِها ونهبِ ثرواتها الطبيعيَّة والتي لا تقتصرُ على ما تختزنه أراضيها من بترول وغاز ومعادن ومواد أوليَّة ضروريَّة للكثير من الصناعات التَّقليديَّة والحديثة والتكنولوجيَّة.

وبالإضافةِ إلى التَّحدِّياتِ الخارجيَّة ثمَّةَ تحديات داخليَّة لا تقِلُّ خطورةً عن الأولى، كالتَّقوقع والإنعزال الوطني والتموضع الطائفي والتَّعنصر المذهبي والاتني والعرقي، وكلها عوامِلُ تشجِّعُ على الفِرقةِ بين الشُّعوب والدول العربيَّة رغمَ أن ما يجمع بينها لا يتوفَّر لدى شعوب دولٍ مُتماسكة، كعوامل اللغة الواحدة «العربيَّة» والجغرافيا المترابطة والأعراف والتقاليد والثقافات المتجانسة، ويضاف إلى تلك العوامل تفشي البطالة والفقر والعوز… الخ وجميعها يستوجب التَّصدِّي لها ومُعالجتَها لتَّعافي الأمَّة من مُصابها تمهيداً للتَّعامُلِ مع التَّحدِّياتِ الخارِجِيَّة التي تواجِهُها.

إن القادة العرب مطالبون بأن يعوا حقيقة هذه التَّحدياتِ ومستلزمات التَّصدي لها وتوقي مَخاطِرها المُحدقة بدولهم كما بالأمَّة جمعاء، وعليهم أن يعوا جيِّداً أن التَّفرُّد بالخيارات المصيريَّة ما هو انتحارٌ لهم ولدولهم ونحرٌ لشعوبهم وللأمَّةِ بأكملِها، وإن لم تبدو نتائجه اليوم فلا بدَّ أنها آتية وسيندمون حيث لا ينفعُ النَّدم؛ والمطلوب منهم اليومَ يتمثَّل في المبادرةِ والعمل سريعًا على لم الشَّمل العربي، ووقف كل أشكال التَّطبيع مع العدو والتَّمسُّكِ بمُبادرةِ السَّلام العربيَّة التي أرى أن الفرصة مُتاحةٌ لتطبيقها؛ كما التأكيد مُجدَّدًا على وحدةِ كل من الدُّولِ العربيَّة، ورفض مُحاولاتِ تقسيمِها إلى دويلاتٍ مصطنعَة، والعمل على إعادةِ الإستقرار السياسي والاقتصادي والأمني فيها وكذلك إحياء دورِ جامعةِ الدُّولِ العَربيَّةِ لتمكينها من القِيامِ بدورِها الفاعِلِ في حَلِّ الخلافات العربيَّة – العربيَّة، كما حلِّ النِّزاعات الوطنيَّة داخلَ كل دولة وفق الأُطُرِ الديمقراطيَّة.

وأخيراً نختم بالقول: إن عالمنا العربي بأحوج ما يكون إلى عمليَّةِ مراجعةٍ شاملةٍ ونقدٍّ بناء وتقييم ذاتي، تُمكِّنُ صُناع القرار فيه من الوقوف على عناصر القوة ومواضع الضَّعف، والفُرصِ المتاحةِ أمامه لتَحقيق تطلعاتِهِ ومُجابهةِ التَّحديات، كما للوقوف على المعوقات التي تعترضُ تحقيقَ تَطلعاته والعمل على تذليها أو تجنُّبها وفقَ الامكانات المتاحة.

* عميد متقاعد