بينما يغيب رئيس جمهورية لبنان عن القمة العربية في جدّة يستمرّ العمل في القصر الجمهوري في بعبدا بانتظار انتخاب رئيس جديد لكي تبقى الملفات حاضرة وجاهزة وحتى لا يحصل أي فراغ في العمل المؤسساتي. من ضمن التدابير التي تعتمد في القصر تجريب نافورة المياه عند المدخل الرئيسي يوماً بعد آخر للتأكد من أنها تعمل.
منذ غادر الرئيس السابق ميشال عون القصر في 30 تشرين الأول الماضي، أُنزِل العلم اللبناني عن السارية وأوقِفت النافورة عن العمل وغاب صوت خرخرة المياه، في إشارة إلى غياب الرئيس. عندما يحضر لا بد من أن تكون جاهزة لتشتغل. هي علامة من علامات إنطفاء وهج الرئاسة ونزولها عن سارية القرار اللبناني الغائب.
ثمة هدوء في القصر. جناح الرئيس مقفل أيضاً ولا يسمح بالدخول إليه إلا للتنظيف. لا زيارات ولا استقبالات ولكن الإدارات تستمرّ في العمل وفي إنجاز بعض الملفات والدراسات القانونية والدستورية المتعلّقة بصلاحيات الرئيس خصوصاً في ظلّ استمرار عمل حكومة تصريف الأعمال وعقدها اجتماعات عند الضرورة، وفي ظلّ طرح بعض القضايا التي تثار حولها إشكاليات سياسية.
القصر المقفل والقيادة السعودية
ليست المرّة الأولى التي يقفِل فيها القصر الجمهوري أبوابه في ظل الفراغ الرئاسي. حصل ذلك بعد انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود طوال ستة أشهر، وبعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان طوال عامين وستة أشهر، وهو يتكرّر للمرة الثالثة لمدة لا يعرف متى تنتهي. يغيب الرئيس عن القصر ويغيب لبنان عن الحضور الفاعل في القمّة العربية التي عقدت في جدّة في المملكة العربية السعودية.
لا يغيب لبنان وحده عن هذا الحضور الفاعل في هذه القمّة. دول عربية كثيرة تحضر من باب تلبية الدعوة الرسمية بينما هي منشغلة في أوضاعها الداخلية. السودان وليبيا وتونس وسوريا واليمن والعراق… وحدها المملكة العربية السعودية تسجّل في هذه القمّة أنّها تكرّس موقعها القيادي في العالم العربي الغارق في أزماته الكثيرة. وهي من هذا الموقع استطاعت أن تدعو رئيس النظام السوري إلى المشاركة وتجاوُز قرار وزراء الخارجية العرب في اجتماعهم الطارئ في 12 تشرين الثاني 2011 في القاهرة تعليق عضوية سوريا في الجامعة. هذا الدور الجديد للمملكة لم يكن متوفّراً لها في القمم العربية السابقة. قمة بيروت عام 2002 عندما طُرحت المبادرة العربية للسلام مع إسرائيل التي أعلنها العاهل السعودي الملك عبدالله كانت خطوة في هذا الإتجاه. ولكن الإهتزازات التي شهدها العالم العربي وتغيير العديد من الأنظمة غيّرا قواعد العمل واللعبة السياسية.
أقرت تلك القمة أنّ السلام العادل والشامل خيار استراتيجي للدول العربية يتحقّق في ظل الشرعية الدولية، ويستوجب التزاماً مقابلاً تؤكّده إسرائيل في هذا الصدد، وطالبت إسرائيل بإعادة النظر في سياساتها وأن تجنح إلى السلم. ودعت إلى الانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة حتى خط الرابع من حزيران 1967، بما في ذلك الجولان السوري، والأراضي التي ما زالت محتلة في جنوب لبنان، وضرورة التوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين وفقاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194.
القمّة وحروب إيران
يأتي العرب إلى السعودية بعد الإتفاق بينها وبين إيران في الصين. هذا الإتفاق كان مقدّمة لتثبيت حضور المملكة الفاعل داخل العالم العربي والمعادلة الدولية. قبل ذلك الإتفاق كان محور الممانعة يتّهم المملكة بأنّها تدير الحرب في اليمن وبأنها كانت تدعم الحرب في سوريا، وبأنّها خسرت في الحربين، ويتّهمها أيضا بأنّها تستعدّ للدخول في «اتفاقات ابراهام» والتطبيع مع إسرائيل، أو أنها دخلت فعلاً من دون الإعلان عن ذلك رسمياً، وكان يكيل الشتائم لحكام المملكة.
ولكن الواقع الذي ظهر بعد هذا الإتفاق بيَّن أنّ المملكة لم تخسر لا في اليمن ولا في سوريا ولا دخلت في «اتفاقات ابراهام» ولا سلكت طريق التطبيع. وظهر أيضاً أن لا حلّ في اليمن من دون المملكة التي أوقفت محاولة السيطرة الإيرانية من خلال الحوثيين على كامل اليمن، وأن لا قدرة لإعادة النظام السوري إلى العالم العربي بعد طرده منه إلا من البوابة السعودية، وأنّ هذه العودة لا يمكن أن تكون من دون ثمن يدفعه النظام الذي كان يكيل الإتهامات للعرب جميعاً بينما كان «حزب الله» في لبنان يشيطِن حكام المملكة وينظِّم مؤتمرات معارضة لها في الضاحية الجنوبية.
وهي أكثر من ذلك حقّقت نموّاً إقتصادياً وعمرانياً واستراتيجياً في ظلّ استهادفها بالقصف الصاروخي وبالمسيرات. خلال أيام انقلب المشهد رأساً على عقب وانتهت عمليات الهجوم ومراسم الهجاء التي كانت تستهدف المملكة.
في مقابل ما حقّقته المملكة العربية السعودية، كانت إيران بقيادة محور الممانعة، تعترف بخسارة حرب اليمن وبالعجز عن إنقاذ نظام الأسد في سوريا. منذ عودة الإمام الخميني إلى طهران وقيام الجمهورية الإسلامية في إيران شنّت هذه الجمهورية سلسلة حروب توسعية لتصدير الثورة انتهت كلّها بعودتها إلى واقعها المحصور والمحاصر داخل حدودها. قاتلت سبعة أعوام في حرب الخليج الأولى ضد النظام العراقي بقيادة صدام حسين وانتهت إلى «تجرّع» كأس القبول بوقف النار. وقاتلت في اليمن عشرة أعوام وانتهت إلى فكّ اشتباك ووقف لإطلاق النار.
واستُدرِجت إلى القتال في سوريا دفاعاً عن النظام منذ العام 2011، وبعد 12 عاماً عادت إلى الإعتراف بأنّها غير قادرة على الإستمرار في الدفاع عنه وحمايته من السقوط. وهي منذ قيامها كانت على خلاف عقائدي وديني مع المملكة العربية السعودية التي استهدفتها في تفجيرات كثيرة واتّهمتها بأنها أُمّ الإرهاب وراعية التنظيمات الإصولية التكفيرية، وانتهت إلى الإتفاق معها وإلى التسليم بدورها الريادي في العالم العربي بعدما كانت جاهرت بأنها صارت تسيطر على خمس عواصم عربية وأنّها وصلت إلى حدود البحر المتوسط في لبنان.
ماذا يفعل «حزب الله»؟
ربما يريد «حزب الله» الإعلان عن عدم سقوط هذه النظرية من خلال المناورة العسكرية التي قيل إنه سيقيمها في جنوب لبنان في وقت يمنع انتخاب رئيس للجمهورية فيه من خلال إصراره على انتخاب مرشحه سليمان فرنجية. بينما المطلوب اليوم رئيس جديد للجمهورية يعيد لبنان إلى عالمه العربي الذي حاول «الحزب» إخراجه منه. لذلك لا يمكن أن تكون المملكة العربية السعودية في قمّة جدّة سيدة قرارها وممسكة بمفاتيح البوابات العربية بينما يبقى لبنان أسير المعادلة الإيرانية وخاضعاً لسيطرة قرار «حزب الله».
يحتاج لبنان اليوم إلى رئيس للجمهورية يعيد حضور لبنان في العالم العربي ويخرجه من حالة الإنهيار التي وصل إليها نتيجة إمساك «حزب الله» بالسلطة منذ العام 2008 بعد الإنقلاب على اتفاق الطائف وفرض تفاهم الدوحة. قمّة جدّة والدور السعودي الجديد يفتحان الباب أمام استعادة الطائف والإنقلاب على انقلاب 7 أيار 2008.
عندما كان لبنان ينظّم القمم
كان لبنان من بين الدول العربية السبع التي أسست جامعة الدول العربية في قمة أنشاص في مصر وهي مصر والسعودية وسوريا والعراق واليمن والأردن. وكان لبنان حاضراً بقوة في العالم العربي منذ ذلك التاريخ على رغم أنّ النظام السوري كان رافضاً لاستقلاله ولقبوله ضمن هذه الجامعة. القمة العربية الأولى التي عقدت بعد التأسيس كانت عام 1956 بعد الإعتداء الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي على مصر بعد قرار الرئيس المصري جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس. أراد الرئيس كميل شمعون أن يكون ذلك المؤتمر للتضامن مع مصر على رغم الخلاف الذي كان بدأ يظهر بينه وبين النظام المصري المتطلّع إلى الوحدة مع سوريا والناقم على الدول العربية المعارضة له، ويهاجمها ويصفها بأنها أذناب الإستعمار وعميلة له، ومن بينها لبنان والأردن والعراق، وضم إليها لاحقا السعودية. ولكن نتيجة المؤتمر كانت كافية كي يتفجّر هذا الخلاف. رفض شمعون طلب عبد الناصر قطع العلاقات مع فرنسا وبريطانيا فبدأ الإعداد لتفجير لبنان في أحداث 1958. تلك الأحداث أدّت إلى تسوية حملت قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب إلى رئاسة الجمهورية.
بعد قمّة جدة يصبح خيار تسوية من هذا النوع ممكناً. ولكن الخطوة الأولى على هذا الطريق تبدأ من الإعتراف بسقوط خيار المرشح الوحيد. هل يمكن أن يقبل «حزب الله» بهذا التراجع الكبير بينما هو يدعي أنّ محور الممانعة انتصر في المنطقة ولا بدّ أن ينتصر في لبنان؟
بانتظار هذا التراجع يستمر العمل في قصر بعبدا على تجريب نافورة المياه وكأنّ الرئيس واصل في اليوم التالي إلى القصر. ويستمر الرهان على أن عودة لبنان إلى ذاته وإلى حضوره الفاعل تبدأ من انتخاب هذا الرئيس الذي يمكنه أن يبدأ عملية الإنقاذ. والمشهد المعاكس يظهر من المناورة العسكرية التي ينظّمها «حزب الله» وكأنه يحاول أن يمشي عكس التيّار ويوجه رسالة إلى معارضيه تشبه رسالة انقلاب 7 أيّار.