فرنسا تلوم نفسها لأنها لم تعَن بتعليم اللغة العربية٬ كما ينبغي. ترتفع أصوات تطالب الدولة بتصحيح الخطأ٬ بإنقاذ الوضع. صحيفة «ليبراسيون» نشرت مقالاً لافًتا عنوانه «حصص العربية في المدرسة أصبحت ضرورة». شقيقتها «لوموند» سبقتها إلى القول: «علّموا المزيد من العربية في الصفوف». ثمة تحقيقات صحافية بدأت تحصي أساتذة العربية الذين وّظفتهم وزارة التربية٬ لتكشف أنهم في باريس لا يتعدى عددهم أصابع اليد الواحدة. الحال نفسه في مدينة ليون٬ فيما يصبح تعليم لغة الضاد في حال أسوأ٬ ويختفي تماًما في المرحلة التكميلية في 64 إقليًما فرنسًيا من أصل 95.
الحملة لا تأتي كرمى لعيني لغة الضاد. ليست العربية بجماليتها هي الغرض. عمليات 13 نوفمبر (تشرين الثاني) الإرهابية الدموية أخرجت الجّني من القمقم٬ أعادت الأسئلة حول سبب عنف العرب وعدوانيتهم. أرجعت الجميع ثلاثين سنة إلى الوراء. يوم ارتأى سيكولوجيون في فرنسا أن معرفة اللغة الأم والتعبير بها٬ تمنح المرء ثقة بنفسه٬ واعتداًدا بكينونته٬ وأن العلاقة الهشة بالجذور وضعف التعبير اللغوي أو الفني٬ ينفجر أساليب ومناهج شتى لا تحمد عقباها.
بالتعاون مع دول المغرب العربي٬ نشطت فرنسا في تعليم العربية بمدارسها. من يومها لم يتطور الأمر كثيًرا٬ بقيت دروس العربية محدودة. الإرهاب المستجد نّشط البحاثة٬ شّغل مراكز الدراسات٬ التي لا تكف عن استكناه الأسباب٬ وتصحيح المسارات.
مستهجن أن يسأل الغريب ويبقى أهل اللغة في سباتهم. صحيح أن عيد العربية يحتفى به هذه السنة٬ ومنذ مطلع الشهر٬ كما لم يفعل العرب من قبل. لا شك أن يقظة ما تنتعش في القلوب الغافلة. جدية تدّب في مفاصل الكتابات٬ حول ضرورة تقويم اللسان٬ وإعادة الرشاقة إلى المنطوق والمكتوب٬ إلا أن الجهد دون مستوى المخاطر.
المعضلة تبدأ من فوق. من بين عشرة سياسيين لبنانيين معروفين٬ أجري لهم اختبار في الإملاء (النص متوسط الصعوبة) رسب ثلاثة٬ ولم ينل أكثرهم عبقرية سوى 14 علامة من أصل 20. ونسأل بعد ذلك٬ لماذا يسود حوار الطرشان الحياة السياسية. من لا يجيد لغته٬ يبقى ذهنه قاصًرا. هذه ليست خلاصة شاعرية٬ بل استنتاجات علمية مثبتة. أن يقول كمال داود٬ وهو أديب جزائري شاب٬ يكتب بلغة موليير٬ بات مترجًما إلى 26 لغة٬ إن «اللغة لا تشكل الهوية إنما هي مجرد أداة يستخدمها»٬ ويمكنه أن ينتقل للكتابة غًدا بالإنجليزية٬ فهو حتًما يعبر عن شريحة٬ لا يستهان بها٬ تظن واهمة أنها تبّدل لغتها كما تغير ملابسها٬ مع أن النظريات الحديثة ترى في اللغة جلًدا يصعب سلخه من دون ألم وتشوهات شديدة الغور.
في عيدها العربية عليلة٬ حد إثارة الخوف منها. كليلة لدرجة أنها باتت توصف في الغرب بأنها أصعب من الصينية التي لا أبجديات لها. نستذكر الرائع علي الوردي٬ الذي نبه مما سماه «نحو السلاطين» الذي وضع لإرضاء نخبة تدفع الأموال وتغدق على علماء البلاط. لا يزال قول الرجل بأننا نحافظ على لغة شاعرية كثيرة الإنشاء تفتقد إلى الدقة٬ صحيًحا. هذه ليست عورات في اللغة بل في أصحابها. تبسيط النحو ليس مستحيلاً. تشجيع اللغة الحيوية الممشوقة لا بد أن يصبح هدًفا. بلبلة الألسن العربية وارتباكها ينعكس اضطراًبا في المزاج وتصدًعا في الشخصية.
جعلنا من العربية لغة مرعبة٬ تثير الذعر في نفوس سامعيها٬ وهل ثمة ما هو أسوأ؟ أخبار الركاب الأميركيين الذين يرفضون صعود طائرة بمجرد أن يسمعوا اثنين من ركابها يتكلمان العربية٬ تكررت مراًرا. نواب من اليسار الفرنسي٬ هم من أكثر السياسيين في بلادهم اعتدالاً٬ صار بينهم من يثير مسألة منع خطباء أئمة المساجد من إلقاء خطبهم باللغة العربية٬ هذا أمر لم يكن متصوًرا. أن نجعل الضاد عنواًنا للفزع على وجه البسيطة٬ ونحن ندعي قدسيتها٬ مسألة تدعو إلى التفّكر وإعادة النظر.
ربما أن الدولة الفرنسية قّصرت في الاعتناء بأربعة ملايين عربي على أرضها٬ وأهملت توطيد صلتهم بلغتهم الأم. لعل في الأمر خبًثا ما٬ خللاً في الود اتجاه جالية بقيت مهيضة الجناح. كل الاحتمالات ممكنة.
تبقى مسؤولية العرب هائلة للمساعدة في إصلاح الخلل. تنفق فرنسا ملايين الدولارات على نشر لغتها٬ تخسر ملايين أخرى من تخفيض الضرائب على كتبها التي تباع خارج أرضها. كرست النظريات٬ عقدت المؤتمرات الدولية٬ ودبجت المؤلفات التي تمجد الفرنكوفونية وتشرح محامدها. العرب تأتيهم الفرص على أطباق ذهبية٬ ولا يلتقطونها. تقرر دول كثيرة تعليم العربية٬ وفرنسا ليست وحيدة في تجربتها٬ فيصم العرب آذانهم٬ ويغلقون نوافذهم. هؤلاء المتحمسون للغتنا يشتكون من شلل المبادرات٬ وصدود في التعاون٬ وضعف في التنسيق٬ حتى الكتب والصحف التي يطلبونها لا توفر لهم.
من لا يغتنم الفرص يجني الغصص. للتذكير فقط٬ فإن العربية مصنفة ثانية في فرنسا بعد اللغة الوطنية٬ وليست الإنجليزية أبًدا. ومع ذلك٬ فإن من يتعلمون الصينية ثلاثة أضعاف تلامذة العربية٬ ومن يتعلمون الروسية ضعفا أولئك الذين يتابعون دروًسا في العربية. فرنسا كانت مبادرة اتجاه لغتنا لأسباب استعمارية. مدرستها الشهيرة للدراسات الشرقية٬ وضمنها العربية٬ ولدت منذ القرن الثامن عشر٬ ولغتنا تدّرس في معاهدها الأشهر التي تعتبر فخر النظام التعليمي في البلاد. تبقى مدارس الصغار نقطة الضعف الكبرى.
مؤلم أن تقرأ فرنسيين يكتبون وينّظرون في قيمة العربية الثقافية والاقتصادية٬ وضرورة تعليمها في مدارسهم٬ بينما يفتعل العربي التلعثم وهو ينطق لغته الأم٬ خشية أن يتهم بإجادتها٬ وتعطي بعض التلفزيونات إرشادات لمقدمي برامجها أن يرطنوا بكلمات إفرنجية٬ كي تبدو المحطة خفيفة الظل في عيون متفرجيها.
عيد بأي حاٍل عدت يا عيد…