جزيرة مساحتها عُشر مساحة لبنان، وملايينها سبعة، طغت أخبارها على أخبار العالم. أهلها، الشهرَ الماضي، نزلوا إلى الشارع محتجّين على قانون لمقاضاتهم في البرّ. رسميّو الصين وإعلاميّوها، على جاري عادتهم، ردّوا الاحتجاجات إلى مؤامرة خارجيّة، وهم سبق لهم أن فسّروا انتفاضة تيان أن مين بالمؤامرة! هذه المرّة، أجواء الحرب التجاريّة مع أميركا سهّلت عليهم الحجّة. لكنْ ما كادت تهدأ الأمور وتتراجع بكين عن قانونها، حتّى نشبت الصدامات بين الشرطة والمتظاهرين في الذكرى السنويّة الـ22 لإعادة هونغ كونغ إلى البرّ. المتظاهرون هاجموا البرلمان. أحدهم رفع العلم البريطانيّ.
المشكلة إذاً في هذه الوحدة. البداية تعود إلى 1997: عامذاك وفَتْ بريطانيا بتعهدها أن تعيد «الابنة» إلى «أمّها» التي قوي موقعها وبدت البلد الكبير الذي يكبر ضدّاً على أحوال البلدان الشيوعيّة الأخرى التي كانت، قبل أقلّ من عقد، قد تناثرت وتبرّأت من شيوعيّتها. الصين، في المقابل، تعهدت للبريطانيين بالحفاظ على نظام هونغ كونغ السياسي ووضعها الإداري المستقلّ، رافعة شعار «بلد واحد ونظامان». اقتصاديا، بدا كأن البرّ هو الذي انضمّ إلى هونغ كونغ: في سنة الوحدة كانت توظيفات الأخيرة في الصين قد تجاوزت الـ60 بليون دولار، وارتفع الناتج القومي لعموم الصين من 620 بليوناً في 1994 إلى 900 بليون.
كان من مصلحة الصين أن تقبل بنصف وحدة مع ذاك «الإقليم الإداري الخاصّ»: بكين تعيّن حاكم الجزيرة الذي تأتمر بأمره أدوات القمع، كما ترفرف أعلامها على المباني الرسميّة، لكنّ هونغ كونغ تحتفظ بعملتها وجواز سفرها وأنظمتها القانونيّة… إنّهم صينيّون لكنّهم ليسوا جزءاً من الصين.
مذّاك والجزيرة تبدي استياءها من العودة إلى حضن وطن محكوم بحزب واحد. أمّا بكين فتحاول استكمال العمليّة الوحدويّة وإزالة الاستثناءات من طريقها. لقد جرّبت ذلك مرّتين في 2003 و2014 فجوبهت باحتجاجات جماهيريّة واسعة.
هذا الميراث حمل بعض خبراء الشأن الصيني على توقّع الأسوأ فيما كانوا يراقبون تحرّكات الشهر المنصرم: لا بدّ أنّ السلطة تخطّط لمزيد من الضربات التي تؤدّي إلى إحكام القبضة على الجزيرة.
حدث هونغ كونغ كان أيضاً صراعاً بين فكرتين: فكرة تعطي أولويّتها للانتماء وللأمّة العظمى والذوبان في مئات ملايينها حتّى لو حكمهم حزب واحد، وفكرة تذهب أولويّتها لحريّة الخيار السياسي واختيار طريقة العيش والحقّ في المبادرة. وهو أيضاً صراع بين فكرتين أخريين: واحدة تقول إنّ الاستعمار يغدو شيئا من الماضي إذ تتجاوزه جدليّته نفسها، وأخرى تقول إنّه أبدي ينبغي أن يكون الصراع معه أبديّاً، فيما الوحدة القوميّة أداة الصراع الأهمّ.
العودة إلى بعض ما كُتب عن تاريخ الجزيرة تشرح أسباب الصراع الفكري المزدوج هذا:
لقد لوّث البريطانيّون «المرفأ العطِر»، وهو معنى هونغ كونغ، بالأفيون. منذ أواسط القرن التاسع عشر جعلوه مرفأ لتلك التجارة المجرمة التي أريد منها جرّ الصينيين إلى التبادل التجاري الحرّ على حساب طريقتهم في الحياة وكرامتهم وإرادتهم، وعلى حساب صحّتهم أيضاً.
وفي 1949. مع انتصار الشيوعيّة، لم تحتلّ قوّات ماوتسي تونغ هونغ كونغ خوفاً من الصدام ببريطانيا التي ردّت التحيّة بأحسن منها: اعترفت بالنظام الجديد مخالفة الإجماع الغربي لبدايات الحرب الباردة. لكنْ مع قيام الشيوعيّة في البرّ، وفّرَ صينيّو إقليم كوانتونغ الهاربون من القمع والجوع المَدد لهونغ كونغ. في عداد هؤلاء كان صناعيّو النسيج في شنغهاي ممن وصلوا حاملين معهم حسّ المبادرة وثقافة المشروع. سكّان الجزيرة، وكانوا يومها مليونين، زوّدوهم باليد العاملة الرخيصة فراح هذا اللقاح يطرح ثماره. ذاك أنّه بالاستفادة من رخص أسعارها، راحت سلع هونغ كونغ، خصوصاً ألعاب الأطفال والملابس الجاهزة والساعات، تنافس في الخارج وتكسب. لقد صارت الجزيرة مقرّاً لشركات العالم، وما إن أزفت التسعينيّات حتّى تفوّق ناتجها المحلي على مثيله البريطانيّ.
قبل ذلك، ودوماً في ظلّ بريطانيا، صارت هونغ كونغ أوّل وأنجح «التنانين الأربعة» أو «الدول الصناعيّة الجديدة» التي أتيح لها تقليد السابقة اليابانيّة وتحقيق نموّ اقتصادي مدهش صحبَه ارتفاع نوعي لمتوسّط الدخل الفرديّ. سنغافورة وتايوان وكوريا الجنوبيّة رافقتها في الرحلة هذه. هكذا تعزّز ما بات يُعرف بـ«القوميّة الاقتصاديّة» في مواجهة القوميّة الصينيّة التي تهدّد بالابتلاع «الأخويّ». والواقع أنّ «غزواً» من نوع آخر مارسته «القوميّة الاقتصاديّة» لـ«القوميّة الأخويّة»: مصانع هونغ كونغ انتقلت إلى البرّ الذي كان قد تعرّض لإصلاحات دينغ هسياو بنغ الرأسماليّة. استثمارات الجزيرة في البرّ تعاظمت وفرص العمل التي أوجدتها الاستثمارات تكاثرت.
سكّان هونغ كونغ، بنتيجة تلك التجربة، اختاروا الحرّيّة على القوميّة، والسعادة على العظمة، والآفاق التي طمحوا إليها على الجذور التي ورثوها. أمّا الحكمة الضمنيّة فإن الهويّة يمكن أن تكون أيضاً شيئا يُصنَع. في المقابل، لم يعد يعطي نظريّة المؤامرة بعضُ الصدقيّة إلاّ شيء واحد: اتّهام الاستعمار بأنّه جعل سكّان هونغ كونغ أكثر ازدهاراً وأشدّ طلباً على الحرّيّة!
هناك بالتأكيد ما هو عربي في بعض تلك السجالات الصينيّة.