عدنان برجي
تحلّ الذكرى السادسة والستّون لإعلان الوحدة بين سوريا ومصر، وقد حلّ الأصيل مكان البديل في إعلان الحرب على الأمّة العربيّة من محيطها الى خليجها. فإذا كان من أسباب إعلان الوحدة في 22 شباط 1958، وقبول جمال عبد الناصر بمطلب، القيادة السوريّة بجميع اتجاهاتها والشعب السوري بكل أطيافه، بالوحدة الفورية دون خطوات تحضيريّة، هو العمل لمواجهة الأحلاف الاستعماريّة التي كان الأميركيّون والبريطانيّون قد بدأوا بتزخيمها فور إفشال العدوان الثلاثي عام 1956( فرنسا وبريطانيا والكيان الصهيوني) على مصر، فإن ما يجري اليوم من تحالف غربي صهيوني بقيادة أميركيّة – بريطانيّة ضد أكثر من دولة عربيّة، يؤكد أن الهدف الاستعماري الصهيوني ليس وليد مرحلة معيّنة وليس ضد دولة عربيّة محدّدة، إنما هو ضد قيام الآمّة نفسها من خلال تثبيت الكيان الغاصب في فلسطين كقوّة مانعة للتقدّم العربي وللحفاظ على التجزئة وفق المخطّط البريطاني الذي تقرر في ظل حكومة بالمرستون في العام 1840.
ان ما يجري اليوم بعد إطلاق عمليّة طوفان الأقصى، يقدّم للأجيال الشبابيّة العربيّة دروساً وعِبَراً كثيرة. منها:
1- أن لا فرق بين الاستعمار المتمثّل بالغرب الأطلسي بقيادة الولايات المتحدّة الأميركيّة والصهيونيّة. فكلاهما واحد في سعيه لنهب موارد الأمّة والحفاظ على تجزئتها وتأبيد تخلّفها.
2- إن مواجهة الأطماع الاستعماريّة الغربيّة والصهيونيّة لا يكون إلّا من خلال المواجهة، فهم لا يفهمون غير لغة القوّة، ولا يقيمون وزناً او اعتباراً لما يُسمّى قانون إنساني دولي أو شرعيّة دولية أو منظّمات أمم متّحدة.
3- إن شعاراتهم المتعلّقة بالديمقراطيّة وحقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها إنّما هي شعارات يطلقونها للتمويه على أهدافهم الحقيقيّة، ولا يلتزمون مضامينها، حينما يتعلّق الأمر بالإنسان العربي وبحرّيته وتحرير أرضه.
4- تأكيد مقولات جمال عبد الناصر التي أطلقها في بيان 30 مارس 1968 من السودان الذي يعاني اليوم التمزّق والانقسام والحرب الداخليّة البغيضة بدعم صهيوني واستعماري، وهي أن ما أخذ بالقوة لا يُستردّ بغير القوّة، وان لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف بالعدو الصهيوني ولا تفريط بحقوق الشعب الفلسطيني في العودة الى أرضه وقيام دولته المستقلّة على كامل تراب فلسطين وعاصمتها القدس.
5- إذا استطاعت الضغوطات الخارجيّة وانحيازات بعض الأنظمة العربيّة دون قيام جبهة رسميّة عربيّة مقاتلة للعدو الصهيوني، فقد نجحت المقاومة العربيّة في قيام جبهة متعدّدة ضد العدو الصهيوني من غزة وفلسطين الى لبنان وسوريا والعراق واليمن. وهذا تعبير عن الوحدة الشعبيّة العربيّة.
6- ليس المُهم نسب من يحمل البندقيّة ولا انتماؤه الوطني أو العقيدي طالما أنّه يوجهها لصدر العدو، ويوقع في صفوفه الخسائر ويدفع بمجتمعه الى القلق على الوجود. فلا فرق بين مقاتل عربي ينتمي الى تنظيم قومي وبين مقاتل عربي ينتمي الى تنظيم إسلامي، ولا فرق بين مقاتل من سوريا أو لبنان أو العراق أو اليمن، أو أي جنسيّة عربيّة أخرى، طالما أنه يتوجه ببندقيته ضد العدو الصهيوني وضد آلته العسكريّة المُدمرة، وضد حلفاء هذا العدو من الأميركيّين والبريطانيّين والأطلسيّين.
ومن المؤشرات ذات الدلالات المهّمة التي تواكب انتصار طوفان الأقصى يتوقف المراقب عند مؤشرّين هما:
أولاً: التوجه الوحدوي المتنامي بين قوى التيار العروبي، وفي القلب منهم أبناء التيار الناصري، وهم يُشكلّون تاريخياً الغالبيّة الساحقة من الشعب العربي. ففي لبنان ترسخ اللقاء الناصري بين مختلف التنظيمات الناصريّة اللبنانيّة التي تمتد على مساحة المحافظات اللبنانية كافّة، ولهذا اللقاء ممثلّون في الندوة البرلمانيّة، ومؤسسات شعبيّة اجتماعيّة وتربويّة وصحيّة وانسانيّة تقدّم الخدمات للناس دون أي دعم خارجي. وهذه القوى لم تنغمس يوماً في موبقات الطبقة الحاكمة في لبنان، ولم يُسجّل عليها تعصّب طائفي أو مذهبي أو مناطقي. عمِلت من أجل تحرير لبنان من الإحتلال الصهيوني، فكانت في طليعة المقاومين لهذا الإحتلال عام 1982 وبعده، وقدّمت في سبيل ذلك الشهداء والتضحيات، ولم تضيّع البوصلة أبداً. هي قوى وحدويّة وتوحيديّة في لبنان، تُغلّب وحدة لبنان أرضاً وشعباً ومؤسّسات على أي نزعة مصلحيّة، وتعمل من أجل إصلاح النظام السياسي اللبناني على قاعدة الإلتزام باتفاق الطائف وضرورة تطبيقه تطبيقاً كاملاً. تتباهى بانتمائها العروبّي الحضاريّ الذي لا يتناقض مع انتمائها الوطني اللبناني، فالوحدة العربيّة بالنسبة إليها هي تكامل في الوطنيّات وليست اختزال لأيّة وطنيّة أو تغليب لوطنيّة على أخرى، وفي نفس الوقت تتباهى باستقلالها عن أي نظام عربي. هذا في لبنان، أمّا في مصر فقد بدأت أيضاً لقاءات جامعة للناصريّين المصريّين. فضلاً عن انخراط غالبية الناصريّين والعروبيّين في المؤتمر القومي العربي المستمر في عمله على الرغم من كل التحديّات منذ 34 عاماً.
ثانياً: نجاح المؤتمر الشعبي اللبناني وفي القلب منه كبرى مؤسّساته، اتحاد قوى الشعب العامل، وهو أول تنظيم ناصريّ على مستوى المنطقة العربيّة، نجاحه في اجتياز مرحلة دقيقة من تاريخه، بعد وفاة مؤسسه الراحل الكبير كمال شاتيلا رحمه الله. ذلك ان الأستاذ كمال شاتيلا كان قيادياً استثنائياً استطاع الحفاظ على تنظيم مستقل وسط أنواء متلاطمة، واجتاز به ومعه محطّات صعبة وقاسية، لكنه لم يفقد البوصلة ولم يخسر استقلاليته. ولم يتشظَّ التنظيم الذي أسسه مع إخوان له رغم التهديد تارة والترغيب تارة أخرى. كمال شاتيلا غلّب بناء المؤسّسات على بناء الزعامة الفرديّة، وغلّب المصلحة الوطنيّة على المصلحة الفئويّة، وغلّب الانتماء العربي المستقل على الانتساب لهذا النظام أو ذاك والاستفادة من خيراته وأمواله ودعمه السياسي. لذلك استطاع الاتحاديّون الإستمرار فنظّموا مؤتمرهم الأول بعد غياب المؤسّس، وأقرّوا نظاماً داخلياً جديداً وانتخبوا رئيساً خلفاً للأستاذ شاتيلا، من بين الاتحاديّين المواجهين للعدو الصهيوني بشراسة، هو المحامي كمال حديد أحد مؤسسي هيئة أبناء العرقوب. هذه الهيئة التي قاومت المحتل الصهيوني في قرى العرقوب وأفشلت مخطّطاته في إقامة إدارة مدنيّة تعمّمت في كل القرى والبلدات المُحتلة بين العام 1978 ويوم التحرير دون قيد أو شرط في العام 2000. لقد نجح الاتحاديّون في إرساء الديمقراطيّة سبيلاً لتداول المسؤولّية وللحفاظ على المؤسّسات الاجتماعيّة والشعبيّة التي يستفيد من تقديماتها عشرات الآلاف من اللبنانيّين من أقصى الشمال الى أقصى الجنوب ومن العاصمة بيروت الى أقصى البقاع. هذه المؤسّسات لا تُقدّم الخدمات الصحيّة والإنسانيّة فقط بل تعمل على بناء جيل يلتزم بالقيم الإنسانيّة وبالرسالات السماويّة الخالدة دون تعصّب ودون تزمّت، ففيها مؤسسات شبابيّة وطنيّة وأخرى كشفيّة هادفة.
ان قراءة موضوعيّة وهادئة وغير منحازة، وغير واقعة تحت تأثيرات الضخ الإعلامي الهائل، والذي بغالبيّته موجّه من قوى الإستعمار نفسها، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار المتغيّرات الدوليّة الآخذة في التطوّر نحو بناء نظام عالمي جديد لن يكون فيه الأميركي القطب الأوحد، وانعكاسات طوفان الأقصى على المنطقة العربيّة والدول الاقليميّة، وانكشاف عقم المراهنة على الكيان الغاصب لترويض المنطقة، وتبدّل الرأي العام العالمي لا سيما رأي الشباب وفي المقدمة منه الشباب العربي، فان الأمل بقيام الوحدة العربيّة على أساس تكاملي، قد تكون بدايته تنسيقاً عربياً أو تضامناً عربياً، ليس أملاً مستحيلاً.