Site icon IMLebanon

في يومها العالمي… لغتنا ضحيّة “برستيجنا”؟

 

عدد كلمات “العربية” 12.3 مليون كلمة مقابل 600 ألف كلمة في “الإنكليزية”

 

«إذا كانت اللغة وطننا حقاً، فإننا نعيش في منفى». اليوم، في يوم لغتنا العربية العالمي، لا بدّ وأن نستذكر هذه الكلمات للشاعر اللبناني وديع سعادة. تحدّيات كثيرة تحول دون مسايرة العربية للحداثة. وغياب السياسات الحكومية لتطويرها، كما تأثير حالة التشرذم التي تعيشها المنطقة، يضاعفان التساؤلات حول ما إذا كانت العربية تحوّلت فعلاً إلى لغة حروب ونكبات وانكسارات. فهل إن لغة الضاد – لغة المتنبي والأخطل الصغير وسعيد عقل ولقمان سليم وكثيرين كثيرين – تحتضر، أم أنها ستنهض بحلّة حداثوية من تحت رماد الركود؟

 

العربية ليست مجرّد حروف ونصوص وأشعار، إنما هويّة ذات بعد حضاري ورمز لكيان قومي وذاتية ثقافية ووحدة مجتمعية. هي من أكثر لغات الأرض مفردات حيث يبلغ عدد كلماتها 12.3 مليون كلمة مقابل 600 ألف كلمة في الإنكليزية، مثلاً. وقد صنّفها علماء اللغات ضمن أسرة «اللغات المتصرفة» – وهي أرقى الأسر اللغوية – نظراً لتغيُّر أبنيتها تبعاً للمعاني المقصودة. غير أن العربية تبدو اليوم عاجزة عن المواجهة في ظلّ اجتياح غربي يدأب على نشر لغته بالوسائل المتاحة كافة. بدءاً من غياب نشر الوعي وتعزيز الهوية الوطنية والثقافة العربية، انتقالاً إلى ضعف البحوث العلمية وحركة الترجمة، مروراً بإخفاق الدول العربية في توحيد المصطلحات، وصولاً إلى مشهد التفتّت العربي العام. هي جميعها عوامل ساهمت في تفشّي حالة التردّي والانحلال التي راحت تنعكس بوضوح بين المتحدثين باللغة العربية، ومن بينهم بعض أهل الصحافة والإعلام. فكيف ينظر أهل الاختصاص إلى هذا الواقع؟

 

بالنسبة لليوم العالمي للّغة العربية – الذي بدأ تخليده في العام 2012 – فقد حدّدته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) في 18 كانون الأول من كلّ عام للاحتفاء بالعربية ضمن أنشطة المنظمة الرامية إلى صون لغتنا وتقديرها كأداة للتعبير الثقافي في تنوّعه. والهدف هو إظهار الدور المعرفي والفكري والعلمي للّغة العربية عبر التاريخ، لا سيّما وأن الأخيرة تُعدّ من أوسع اللغات السامية انتشاراً حيث يبلغ عدد المتحدثين بها أكثر من 420 مليون نسمة على مساحة العالَم العربي. وما لا يقلّ أهمية هو كونها لغة القرآن الكريم واللغة المعتمَدة لدى عدد كبير من الكنائس المسيحية في المشرق.

يعود اهتمام اليونسكو بالعربية إلى سنة 1948، حيث قرّرت اعتمادها كلغة ثالثة (إلى جانب الإنكليزية والفرنسية) في الاجتماعات التي تُعقد في البلدان العربية. وفي العام 1960، بدأ اعتمادها ضمن اللغات التي تُترجَم إليها محاضر الاجتماعات ذات الصلة كما منشورات المنظمة. إلى أن اعتُمدت ضمن اللغات الرسمية للجلسات مع ترجمة آنية منها وإليها في المؤتمر العام للمنظمة سنة 1966. هذا ووُضع برنامج لتوسيع استخدامها، فكانت النتيجة اعتمادها كلغة رسمية في اليونسكو في العام 1974.

 

نعم للإشتقاق… لا لعرض العضلات

البداية مع اللغويّ والكاتب والأستاذ المحاضر في اللغة العربيّة والكتابة الإبداعيّة، إلياس قطّار، الذي أشار عبر «نداء الوطن» إلى أنّه من غير المؤمنين بنظرية اندثار اللغة العربية، كونها لغة حيّة واللغات الحيّة لا تموت طالما هناك ناطق واحد بها. «لكنّ ذلك لا ينفي حقيقة أنّ واقع العربية سيّئ. وإذا أردتُ أن أُسقط الواقع اللبناني على واقع اللغة، فهما متماهيان تماماً: تراجُع، وانحلال، وإهمال واستهتار. ورغم هذا الترنّح والتأرجح، ترفض العربيّة أن تموت، ولن تموت، لكنها تكبو لتنبض مجدّداً في أقلام الحريصين على صونها». هذا الواقع يحيلنا، بحسب قطّار، إلى السبب: ثالوث البيت والمدرسة والسوق. فالبيت هو الحاضنة حيث تولد اللغة وتنمو وتراهق وتشبّ، ولا تشيخ. لكن لا بدّ من التمهّل هنا: «اللغة العربية أهمّ من «برستيجكم»، يقول قطّار. علّموها لأطفالكم، وليجيدوا أكثر من لغة أيضاً. لكن ما نفع أن ينطقوا بلغات ثلاث والعربية ليست من ضمنها؟». هي مناشدة صادقة توجّه بها إلى الأهل. أما على جبهة المدارس والجامعات، فشدّد على ضرورة إرساب أيّ طالب لا يجيد العربية، لا سيّما في الاختصاصات التي تستلزم تعاملاً مباشراً معها. ولم تفُته الإشارة إلى أزمة المعايير التي تعيشها السوق والتي تبدو واضحة داخل المؤسسات الإعلامية.

سأل عن فوضى الأخطاء اللغوية الشائعة في الأوساط الإعلامية، فيجيب قطّار أنّ من الأفضل أن يتّجه أيّ صحافي غير متمكّن من فصيح اللغة إلى اللهجة العامية أو البيضاء، بدلاً من الإصرار على إنتاج تقرير بالفصحى يشوّه اللغة بوابلٍ من الأخطاء. كما دعا إلى الابتعاد عن «عرض العضلات» الذي يوقع الإعلامي في الخطأ، وتبنّي عبارات أكثر بساطة. أمّا بالنسبة إلى عمليّة التعريب والنقل التي تلجأ إليها بعض المجامع اللغوية في محاولة لتكريس مواكبة اللغة العربية التطوّر التكنولوجي، فانتقد قطّار النقل الحرفيّ لبعض الكلمات الأجنبية إلى اللغة العربيّة، كون الأخيرة تحتضن بحرًا من المصطلحات والمترادفات، وتمنحنا نعمة الاشتقاق وهو ما يميّزها عن غيرها من اللغات. «أنا من دعاة الاشتقاق ولست ضدّ التعريب ركونًا إلى حقيقة أنّ اللغات في عملية تحديث مستمرّة، شرط أن يكون التعريب مصيباً ودقيقاً. أمّا النقل الحرفيّ من دون البحث عن مقابل للكلمة في لغتنا المباركة فكسلٌ وإلماحٌ غير دقيق إلى فقر اللغة العربيّة».

 

إبحثوا عن المناهج التربوية

 

حول الإخفاقات التربوية المتّصلة بها، ذكّر الرئيس السابق للمركز التربوي للبحوث والإنماء، الدكتور نمر فريحة، في اتصال مع «نداء الوطن»، بأن العربية هي اللغة الأم في لبنان كما في 20 دولة أخرى. من هنا يُعتبر وجودها في المناهج التعليمية أمراً طبيعياً كما يجب التركيز عليها بشكل رئيسي إن من حيث عدد الساعات المخصّصة لها، أو حتى محتوى الكتاب المدرسي، ذلك أنه يُفترض إتقانها من قِبَل الطلاب وعلى كافة المستويات. «لكن الواقع مختلف في لبنان كما في الدول العربية. فهناك ضعف قرائي عام رغم أن جميع الأنظمة العربية التربوية لا تعترف به. الطلاب يولون اللغات الأجنبية اهتماماً أكثر من العربية. وهذا الضعف يبدو واضحاً في نتائج امتحانات «بيرلز» التي يخضع لها طلاب بعض الدول العربية حيث تراجعت المستويات بشكل ملحوظ».

 

الحلّ، وفق فريحة، يكمن في اهتمام النظام التربوي باللغة العربية وفي متابعتها وحسن تدريسها، مع إعطاء محفّزات للمعلّم والمتعلّم على حدّ سواء، على أن تكون الخطوات فعلية وليس فقط كلامية. فالخطابات والمؤتمرات وورش العمل عديدة لكن الجدّية في التنفيذ شبه غائبة رغم اعتراف المسؤولين التربويين بأن العربية هي الأفضل عالمياً. وأضاف: «لقد خضْت تجربة شخصية تتعلّق بالتربية الشمولية في لبنان، والمرتكِزة على جعل العربية الفصحى الأساس في تعليم المواد كافة. كما أجرينا التجربة نفسها في سلطنة عمان حيث أثبتت نجاحها الباهر. غير أن المركز التربوي عاد وأوقف العمل بها في لبنان». ولفت ختاماً إلى التأثير السلبي لوسائل التواصل الاجتماعي حيث تُستخدم اللغة العامية كما الحرف الأجنبي بدلاً من نظيره العربي، ما يساهم أكثر فأكثر في إضعاف اللغة العربية. التكنولوجيا يجب أن تُستغل لتعزيز تعليم العربية ونشرها. فهل يستفيق المسؤولون التربويون قبل فوات الأوان؟

 

اللغة تهاجر ولا تموت

 

بدورها، اعتبرت الناشرة والروائية والناقدة الثقافية اللبنانية، رشا الأمير، في حديث لـ»نداء الوطن» أن اللغة لا تموت، بل تنزف لغات وكلمات وأفكاراً جديدة. «الكلمة بيتنا وبيتنا شلّعته الحروب والنكبات والانكسارات. نعم، نحن في مأزق والإحباطات كثيرة كوننا نعيش في منطقة زلزالية. فمن يتكلّم عن اللغة خلال الحرب حيث تصبح نوعاً من أنواع الترف في وقت يبحث الناس عن احتياجاتهم الأساسية؟». تتساءل الأمير وتكمل أنه يصعب تحبيب الأجيال الناشئة وتعليمهم لغة القتل في وقت يسعون لمَحو مشاهد الحرب وكل ما يرتبط بها. لكن، مع ذلك، فالعربية لا حدود لها وهي في حالة هجرة دائمة، إذ إن المهاجرين يأخذون معهم موسيقاهم وأغاني فيروز وقصائد سعيد عقل وغيرها، حتى في أصعب لحظات التراجيديا التي يعيشونها. ثمة كثير من الجهود من أجل إنقاذ العربية بعد التنبّه لخطورة الموقف. «لكن الموضوع موجع. نحن نحاول إعادة إحياء لغتنا ويجب أن نستمر في هذا المسعى لأن اللغة سلاحنا. يجب أن نتشاجر معها يومياً لنعود ونحبّها من جديد كما جميع مقوّمات الحياة الأخرى».

 

كُتب هادفة

 

تخبرنا الأمير في هذا السياق عن مجموعة إصدارات هادفة لإعادة الرونق إلى اللغة العربية. نذكر بداية كتابها بعنوان «كتاب الهمزة» – وهو مؤلّف فريد من نوعه خصّصته للحرف الأكثر مشاكَسة، أي الهمزة، كي يكون عوناً قواعدياً وإملائياً للكتّاب وللحدّ من سوء استخدامها أو إلغائها أو إجلاسها حيث لا تريد لها اللغة.

 

ثم هناك كتاب «Plaidoyer pour la langue arabe» (الصادر بداية العام الحالي) للكاتبة اللبنانية – الفرنسية ندى يافي، في فترة تشهد فرنسا الجنوح المتطرّف لبعض الأوساط اليمينية الحزبية والاجتماعية الصاعدة التي تخلط بين كل ما هو مرتبط بالعالم العربي – اللغة العربية ضمناً – و»الإرهاب» الإسلامي. وقد حاولت اليافي من خلال كتابها إعادة الاعتبار للعربية، لغة الحب، كي لا تبقى موضوع جدل واتهام.

وفي كتابه «العربية على محكّ شبكات التواصل»، يذهب الكاتب أحمد بيضون إلى أن شبكات التواصل الاجتماعي تحوّل العاميات العربية إلى لغات مكتوبة قد تصبح بدورها مستقبل الفصحى. وعالج ظاهرة شيوع كتابة العربية بحروف لاتينية في ظلّ ما أظهرته اللغة العربية من مشكلات في التعبير عن أمور مختلفة. كما تساءل إن كانت شبكات التواصل ستحثّ على هوية عربية جامعة أساسها اللغة.

 

المساعي الرسمية وغير الرسمية تتعدّد. لكن أسوة بإصدار بعض دول العالم – على غرار روسيا وفرنسا وإيران والصين – قوانين لحماية لغاتها الأم، قد يكون ذلك أقلّ ما يتعيّن علينا فعله تحصيناً للعربية. فالنزعة الكوزموبوليتية التي تغزو المجتمعات تجعل الوقت داهماً للاستدراك.