“الجيش العربي السوري”، “أمّة عربية واحدة”، “دمشق قلب العروبة النابض”، “الجمهورية العربية السورية”… هرب الأسد تحت وطأة القبضات المرفوعة والحناجر التي تصرخ “سوريا حرة”، وغاب مصطلح العروبة عن شعارات الشعب السوري والفصائل المسلّحة. توسّل نظام البعث وكل الأنظمة القمعية شماعة العروبة لممارسة “التكفير السياسي” فكفرت بها الشعوب المقهورة حين اكتشفت أنها أصبحت مرادفة للتسلط والقمع والاعتقال والقتل. أليست من السخرية المرة أن أحد أكثر السجون رعباً موجود في مركز استخبارات اسمه “فرع فلسطين”؟
كان حافظ الأسد أحد أبرز منافقي العروبة، وكان يضع خلفه صورة لمعركة حطين التي انتصر فيها صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين. صلاح الدين “الكردي” لم يدر في خلده يوماً أنه “قائد عربي” يحارب الصليبيين أو “الفرنجة” بتعابير ذلك الزمن. المراجعة التاريخية لأحد أبرز الباحثين في التراث الإسلامي الدكتور يوسف زيدان، بيّنت أن صلاح الدين من أسوأ المجرمين في التاريخ، وقتل أكثر من 200 ألف مسلم سُنّي ليتفرّد بالسلطة. لربما لهذا السبب اختاره حافظ الأسد مثالاً، ومشى على خطاه في قتل الشعب السوري هو وابنه بشار.
منذ سقوط نظام صدام حسين “البعثي” الآخر، تراجع في العراق مصطلح “العروبة” بالمعنى الأيديولوجي، وحل محله في أدبيات المكوّن السُني والشيعة المناهضين لإيران، خطاب عودة العراق إلى “الحضن العربي”. وفي الدستور الحالي، العراق “دولة اتحادية” أي فدرالية ولا يوجد أي ذكر للعروبة. فقط في المادة الثالثة ورد أن العراق “عضو مؤسس وفعّال في جامعة الدول العربية وملتزم بميثاقها وجزء من العالم الإسلامي”. عام 2011 في بداية الثورة السورية كانت الصرخات في الساحات “سلمية سلمية”، ومع توحش النظام أصبحت الشعارات “يا الله يا الله ما إلنا غيرك يا الله”. شعار يحمل معنى عميقاً، لقد سد النظام كل منافذ الحرية وقمع كل الأحزاب السياسية وكان من الطبيعي أن يكون الدين الملجأ الأخير.
لقد أصبحت العروبة المؤدلجة في وجدان الشعبين العراقي والسوري عقيدة لتبرير القتل والاستبداد. وعملاً بسنن التاريخ، التطرف يولِّد تطرفاً مضاداً، فتصدرت حركات “الإرهاب الديني” المشهد، وانزوت المعارضة المدنية. طيلة 14 سنة عانت سوريا حرباً بين فكرين شموليين أُحاديين، يختلفان بالعقيدة ويتفقان بالوحشية. التحدي السوري المقبل أن تستمر “الفصائل الإسلامية” في الابتعاد عن منابع الفكر التكفيري والاستدارة باتجاه مفاهيم الديمقراطية الحقة. انفجر “التطرف السُني” كرد فعل على نظام “الجمهورية الإسلامية” في إيران الذي اعتمد “تصدير الثورة الشيعية” عام 1997.
هذه الثورة المُتَخلِّفة بدأت تتقطع أوصالها في المشرق العربي، وحركة “حماس” ومنظمة “حزب الله” إلى ذبول فكري، وهو الأهم من الإفلاس السياسي والانكسار العسكري. لقد قطع الاستبداد بوجهيه اليساري والديني، مسيرة اللحاق بالحضارة، ومنذ أربعينات القرن الماضي العديد من الدول العربية سارت باتجاه معاكس، ما أدى إلى التخلف المصحوب بالاستبداد. ثمة فرصة تلوح مع التحولات الجذرية التي تشهدها المنطقة، فعسى أن نعبر إلى “الشرق الجديد” كما جاء في قصيدة للشاعر خليل حاوي، وتكتسب العروبة بدورها معنى جديداً.