تُستدعى العروبة كي تُزج في الصراع السياسي، وكأنها سلاح يستطيع أهل السلطة استخدامه حينما يشاؤون. يريد هؤلاء أن ننسى أن العروبة ليست مفهوماً للسلطة بل للعامة من الناس، للمجتمع، للشعب، في وجه السلطة التي غالباً ما تخلت عنه في العقود الماضية.
إذا كانت العروبة هوية فهي كذلك كتعبير عن وجود بشري اجتماعي ذي وجدان ومشاعر ومطالب جرى التعبير عنها في ميادين ثورة 2011 بشعار «عيش، كرامة، عدالة اجتماعية». هي هوية تحدد نفسها من داخلها، بالاستجابة لمطالب الشعوب التي تحملها وبتلبية حاجاتهم وآمالهم وتطلعاتهم. لا تعرِّف العروبة نفسها بالآخر ولا بالعداء لآخر. ليست العروبة بحاجة إلى آخر كي تثبت نفسها. لا شيء إلا وله نقيض. نقيض العروبة هو الاستبداد بجميع أشكاله؛ هو منظومة السلطة العربية بمختلف أطيافها. ليس نقيضها شعبا آخر أو قومية أخرى. تتماهى العروبة مع وجدان جميع الشعوب المضطهدة والمستغلة في العالم. تشكلت العروبة على هذه الأرض العربية استجابة لوعي ومطالب سكانها، قبل وبعد كل شيء.
العروبة حق الشعوب على حكامهم. هي دَيْن على حكامهم، وعلى الطبقات التي تدعمهم، وعلى النظام العالمي الذي يتحالفون معه. هي الحرية المحجوبة بالقمع، هي الفقر الذي تصنعه الثروات المسروقة المنهوبة، هي الأرض المستباحة للعدو، هي الكرامة المهدورة بالذل الذي تجسده إسرائيل، هي لقمة العيش المنزوعة من أفواه الفقراء، هي العمل والإنتاج اللذان تحرم منهما الطبقات الدنيا المتروكة للبطالة والهجرة المهينة، هي التكامل العربي المعدوم، هي التكافل العربي المفقود. هي باختصار ليست مجرد تضامن يدعى إليه بين الحين والآخر بعد أن يكون نسياً منسياً.
ليس للأنظمة حق على شعوبها، ولا على الشعوب واجب تجاه حكامها. العروبة هي أن تعترف الأنظمة بشعوبها؛ أن تشارك هذه الشعوب في تقرير مصيرها وفي إدارة شؤون بلادها. العروبة هي الناس ومن يختارونه لتمثيلهم. هي السياسة المنقطعة؛ نقيض الحروب الأهلية المتصلة. عروبة الأنظمة القومية والأنظمة الأصولية تهبط من فوق إلى تحت لأنها تمثل السماء أو هكذا تدعي؛ عروبة الناس تصدر عنهم، تصعد من تحت إلى فوق. هي السياسة بمعنى التواصل والاتصال والحوار والتسوية؛ المشاركة والعيش سوية. لا تدين الشعوب بشيء لأنظمتها؛ هذه تدين بكل شيء لمجتمعاتها. تدين لها بالوفاء لتطلعاتها وبالاعتراف بها وبوجودها وبوجدانها وبمشاعرها وبحاجاتها المادية والمعنوية.
لا تتماهى العروبة مع دين أو مذهب ولا تتناقض مع دين أو مذهب. هي فقط كيف يعرِّف الناس أنفسهم في هذه المنطقة انطلاقاً من وجدانهم وحاجاتهم. هي ليست أصلاً مشتركاً بل مصير مشترك. هي مستقبل يُصنع بالسياسة والحرية والديموقراطية. العربي هو من يريد أن يكون عربياً؛ أن يكون قراره صادراً عن روحه. ليس من يعلن عروبته، أو يصير عربياً حين اللزوم. ليست العروبة فكرة تزدهر أو تذوي حسب الظروف، أو حسب متطلبات السلطة. هي وجود مستدام؛ وجود تاريخي شكلته متطلبات أهل المنطقة العربية في صراعها اليومي وفي العمل والإنتاج من أجل البقاء والاستمرار. الحروب الأهلية التي تخوضها الأنظمة العربية تستهدف هذا الوجود. وتضحك الأقدار، أي ما يقرره النظام العالمي. ازدحمت الجيوش العالمية والإقليمية في منطقتنا حتى نكاد نحسب أننا في حرب عالمية تستهدف الشعوب لإفنائها وتبقي على الأنظمة حيثما كانت.
عندما تعترف الأنظمة العربية بشعوبها تتوقف الحرب الأهلية ويكون هناك بقاء واستمرار. لا تعترف الأنظمة بشعوبها إلا عندما تعود السياسة والمشاركة، فتنشأ المواطنة. ليس العرب أخوة في العروبة؛ يصيرون أخوة عندما يتحولون إلى مواطنين في الدولة. المواطنة حق مستلب، دين على الأنظمة. الناس رعايا في الإمبراطورية قبل الرأسمالية وفي نظام رأسمالي يجعل منهم أدوات إنتاج. ما يسمى «الرأسمال البشري» يستدعى الآن لإثبات عروبته. هذا تناقض مع إنسانية هؤلاء الناس. شرط العروبة هو المواطنة، وشرط المواطنة هو العروبة. المواطنة مشاركة في السياسة، في إدارة شؤون المجتمع، كما هي العروبة. تتماهى العروبة مع السياسة وتتناقض مع الاستبداد. لا علاقة لها بالأصل البيولوجي والقبلي بل بالمصير المشترك، المصير الذي يصنعه الناس سوية.
لدى الدول المجاورة أطماع في هذه المنطقة العربية. لا ننسى أن العرب فيها مضطهدون، وحريتهم مستلبة، ولغتهم ممنوعة. العروبة ليست «قدراً محبباً» كما قال مؤسس البعث، وما القدر أمر تقرره سلطة دينية في قطر عربي، ولا مرشد مذهبي في دولة مجاورة، ولا سلطان جمهوري في دولة أخرى مجاورة. القدر هو ما يصنعه غيرنا لنا، ولا ينوب عن الله من يقول بالقدر. القدر الذي تصنعه الشعوب العربية هو الحرية. الشعوب تريد، لا أن يراد الله.
ما تريده الشعوب العربية عبّرت عنه في ميادين العام 2011.