كما على الأرض كذلك في الفضاء، يتعزّز حصار الإسلاميين المتطرّفين لمصر، ولا يبقى سوى جهة البحر لتصبح المحروسة سجناً كبيراً يصعب التفريق فيه بين المحتجزين وحراسهم، فهم ينطقون جميعاً بلغة اليقين ويعتبرون الشعب رعايا لا مواطنين.
إذا تأكّدت فرضية تفجير إرهابي للطائرة المصرية المدنية الآتية من باريس، فهي تذكّر بنكبة الطائرة الروسية التي فجّرت فوق سيناء في بداية رحلتها من شرم الشيخ إلى موسكو. وهي ضربة موجعة ثانية للسياحة، بل أكثر من ذلك، للعلاقات بين مصر (ومعها المشرق العربي ومغربه) وأوروبا.
ويصعب ترميم الضربة وآثارها السلبية مع تفاقم التطرُّف الإسلامي وإنكاره العلاقة مع الآخر المختلف بإطلاق شعارات تتميز بالخفة وعدم المسؤولية، وهذا يتسبّب تالياً بحساسية شعوب أوروبية تتجه شيئاً فشيئاً الى التطرُّف اليميني والتحجُّر الوطني وتهدم تراثاً إنسانياً متجذّراً منذ الثورة الفرنسية وعصر الأنوار.
أبعاد واسعة تُبنى على حدث محدود، فالطائرة المنكوبة انتقلت خلال 48 ساعة من القاهرة إلى أسمرة ثم عادت إلى القاهرة لتنتقل إلى تونس، ثم تعود مجدداً إلى القاهرة ومنها إلى باريس، وكان يُفترض عودتها الى القاهرة، لكنّ البحر المتوسط «ابتلعها». تلك الرحلات المكثّفة في وقت ضيق ستكون بنداً في تحقيق تجريه لجنة مصرية – فرنسية، إلى جانب بنود أخرى بينها التفجير الإرهابي، خصوصاً بعد التهديد الأخير الذي وجّهه «داعش» لفرنسا، وسيساعد الصندوقان الأسودان حال العثور عليهما، في جعل النتائج أكثر دقةً ووضوحاً.
وبالإرهاب أو من دونه تذهب انشغالات العالم بنكبة الطائرة لإلى التركيز على حصار مصر: شرقاً من إمارة «داعش» في شمال سيناء وخلفها «دولة» حركة «حماس» في غزة، وغرباً من ليبيا حيث تتحكّم جماعات متطرفة في معظم الحدود الطويلة مع مصر، وجنوباً من السودان، حيث نظام زئبقي يجثم على شعبه على رغم انفصال الجنوب، ويمارس في الإقليم انتقالات بين العرب وإيران وفق مصلحته لا بحسب الانتماء الحقيقي للشعب السوداني. تبقى جهة الشمال، البحر المتوسط، حيث تستدعي مأساة الطائرة انتباه أوروبا إلى صورتين سلبيتين لمصر، الإسلام السياسي كما مثّله حكم محمد مرسي و «الإخوان»، والجيش الحائر بين استعادة قبضة الضباط الأحرار والتوصُّل إلى تفاهم مع القوى المدنية لتطوير الحكم من دون الإخلال بالاستقرار.
شرق البحر المتوسط ليس مثلث برمودا لإدخال الحادث المؤسف في متاهة الشيطنة والغموض، وإن كان «داعش» المرشح الدائم للارتكابات الشنيعة، لكونه يحارب مصر على أرضها ولا يعف عن محاربتها في الفضاء، ولكونه يمارس تنغيص حياة البشر وعرقلة عيشهم ليلزمهم بالعبودية التي لم تحظ بوصف كامل في أماكن سيطرته. وقد يتحول شرق المتوسط إلى مثلث برمودا من نوع خاص، فالدول المشاطئة (تركيا، سورية، لبنان، إسرائيل، غزة، مصر) عدا اليونان، تهتزّ مجتمعاتها وتذهب إلى تطرُّف، بهذه الدرجة أو تلك، يجعلها عاجزة عن تأمين استقرار لشعوبها وإقامة علاقات طبيعية مع الدول القريبة والبعيدة.
كما على الأرض كذلك في الفضاء، وتكفي نكبة طائرة مدنية لفتح ملفات القتل والدمار القائمة على تبسيط الفكر الديني ووضعه على سكة كراهية عمياء.
بعد غد يستقبل البابا فرانسيس في الفاتيكان شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب. لا علاقة للقاء بنكبة الطائرة، ولكن، كيف يمكنهما النأي بالإيمان المسيحي والإيمان الإسلامي عن العنف، والتخلُّص من ملابسات تاريخية تعني أبطالها وأزمانها أكثر مما تعني المسيحي والمسلم في أيامنا الحاضرة؟ وإذا أعلن البابا والشيخ النأي، فمن يسمع ويطيع في فوضى العنف وغلبة الخفة القاتلة؟