IMLebanon

العرب والمتنبي والقطار

قال زميلي: «القمة العربية تنعقد الإثنين (اليوم). لا يجوز لافتتاحية «الحياة» في اليوم نفسه أن تتجاهل الحدث. صحيح أن أوضاع العرب لا تسر إلا العدو لكن الصحيح أيضاً هو أننا صحيفة عربية قبل كل شيء». وأدركت سريعاً أنه يخشى أن أتذرع بأهمية الحدث التركي أو الذئاب المنفردة لأهرب إلى موضوع آخر.

والحقيقة أن الكتابة عن القمم العربية تُربكني. يُفرحني أن العرب احتفظوا بقدرتهم على الاجتماع في خيمة واحدة بعدما تبددت قدرات كثيرة أخرى كان يفترض أن تكون لديهم. لكن لدي مشكلة، فكلما كتبت عن أحوال العرب ينتهي بي الأمر إلى الرثاء. وأنا أصلاً لا أحب الرثاء. وقعت فيه أحياناً من فرط ما اغتيل من رجال أعرفهم. ومن فرط ما اغتيل من مدن أحبها كنت أزورها حاملاً دفتراً صغيراً وآلة تسجيل. ثم إنني لا أعتقد أن من مهمة الصحافي توضيب الدموع أو رش السكر على الموت.

لدي مشكلة في الكتابة. كلما انعقدت قمة عربية يراودني شعور أن الوضع كان أقل هولاً في موعد القمة التي سبقتها. وأن السنة الفاصلة بين الموعدين لم تكن أكثر من فرصة جديدة لمواصلة الاندحار وتسريع الانحدار.

ولدي أيضاً في السنوات الأخيرة شكوك عميقة في معاني عبارات ومفردات كنا نخالها واضحة أو قاطعة. لم أعد أعرف مثلاً ماذا نقصد حين نقول «العالم العربي». هل لا يزال هذا العالم العربي موجوداً وحياً أم أنه كائن منهك يقيم في دار العجزة ويسعل دماً بانتظار لحظة إطباق الجفون؟ لا أقصد أبداً أن العرب في طريقهم إلى الانقراض لكنني أشعر أن استخدام تعبير «العالم العربي» بات استفزازياً أو مثيراً للسخرية أو الأسى. وأشعر بقدر من الارتباك حين يستوقفني سؤال من قماشة: ماذا يريد «العربي»؟ لا أحب التفجع لكنني أسأل هل لا يزال هذا «العربي» حياً؟ وما هو عنوانه؟ أم أنه يتغطى الآن بوصف آخر وينام تحت هويات صغيرة في الجزر الانتحارية المتناحرة؟

تربكني الكتابة عن القمة. هل فشل «العربي» في بناء مؤسسة ودولة وفي الانتماء إلى العصر والتصالح معه؟ وهل دفعه الفشل إلى اعتناق الظلام وخيار الاصطدام بالعالم والعصر؟ أفكر في الإرهاب الجوال والسنوات المقبلة وأخاف. هل سيتكتل العالم ضدنا ويعتبرنا «إمبراطورية الشر»؟ وهل سيستدعينا مرغمين لتبديل ثيابنا وما يتدفق في شراييننا من ميول انتحارية ورفض للآخر؟

لست متشائماً، لكن عبارة «الأمن القومي العربي» تربكني. أرى تونسياً ينفجر في خيمة عزاء عراقية. أرى شيشانياً يقتل سورياً موالياً. وأرى أفغانياً يقتل سورياً معارضاً. وأرى خبراء إيرانيين في عاصمة العباسيين وعاصمة الأمويين. وأرى «الفضاء العربي» مرصعاً بالانتحاريين والإعلام والمليشيات والخرائط المتهالكة والدويلات المفيدة وبقايا الجيوش.

يربكني أيضاً هذا «الثقل العربي» الذي يعجز عن إقناع «فتح» و «حماس» بالتعايش في مؤسسة واحدة لإنقاذ ما تبقى من أشبار من أرض فلسطين والقضية المركزية. الثقل الذي يعجز عن وقف عملية احتقار اللبنانيين بإبقاء جمهوريتهم مقطوعة الرأس بانتظار استجماع شروط تنصيب «المنقذ».

لست متشائماً لكن الأرقام هي الأرقام. في المسافة بين قمة شرم الشيخ وقمة نواكشوط سجل العالم العربي أرقاماً قياسية في أعداد القتلى واللاجئين، والأمية والبطالة والعيش تحت خط الفقر، والمدن المحروقة والسيارات المفخخة والانغماسيين.

ما أصعب الكتابة عن قمة نواكشوط. يحتاج العرب إلى ورشة تنمية فعلية لتعويض ما ضاع من قرون. يحتاجون إلى قرارات مؤلمة لا بد منها للصعود إلى قطار التقدم والأمل والاستقرار. عبثاً نهرب من أثمان القرارات المؤلمة ونتعلق بالأفكار الحجرية والسفن المثقوبة.

أعجبتني بهجة المحتفلين بانعقاد القمة العربية على «أرض المليون شاعر». وسمعت أن قصائد كثيرة دبجت وأخرى في الطريق. أنا لا أكره الشعر بل أكاد أحبه. لكن الغيبوبة طالت والوقت لا يرحم. لكي يبقى للعرب زمان ومكان وكيان عليهم أن يلحقوا أطفالهم بهذه الثورات التكنولوجية التي لا تنام. مفاتيح المستقبل موجودة في عالم «مايكروسوفت» لا في قصائد المتنبي. قتلنا النوم الطويل في سرير الماضي والاعتقاد أن المستقبل يكمن في استعادة عصر ذهبي كان.

دائماً يسبقنا القطار. دائماً نتأخر. يذهب ويتركنا. نتبادل الطعنات ونتلف المدن ونحفر المقابر. ثم ننام تحت ذهب القصائد والتاريخ ولا عزاء لنا إلا المتنبي.