قلنا مراراً في هذا المكان وفي غيره أن جزءاً كبيراً من الإشكاليات المطروحة على الساحة العربية هي ذات طبيعة ثقافية، والمؤسف دائماً أننا في هذا الجزء من العالم نستهين كثيراً بالعامل الثقافي على رغم أنه كما هو معروف قد أصبح هو المتغير المستقل الذي تتبعه متغيرات أخرى، ولعلنا لا نبالغ لو قلنا أن صراعات العصر بل وحروبه تنطلق من اختلافات ثقافية تؤدي أحياناً إلى إنكار الآخر وبث ثقافة الكراهية بديلاً للسعي نحو السلام والأمن الدوليين. ولقد لاحظنا في السنوات الأخيرة أن التركيز على العنصر القومي في تشكيل الدول وقيام المجتمعات قد أضحى معتمداً إلى حد كبير على العنصر الإنساني وطبيعة الموارد البشرية المتاحة لدى كل كيان سياسي في عالمنا المعاصر، بل إننا نزعم أن سوء الفهم الذي يؤدي إلى مواجهات دولية وإقليمية يكون ناجماً عن تراكمات تاريخية في إطار ثقافي، فأين «بن لادن» من «بوش الابن» وهما كانا في مواجهة دامية والمسافة الثقافية بينهما واسعة وغير قابلة للتجسير، بل إنه داخل الثقافة الواحدة فإن التباين في أساليب الحياة وطبيعة القيم والتقاليد يجعلنا نجد أن الأمر يختلف أيضاً، ويكفي أن نتأمل أخيراً ما جرى بين الكوريتين فهما ينطلقان من أصل واحد ولكن الاختلاف في السلوك الاجتماعي وتباين المناخ السياسي والبيئة الاقتصادية كل ذلك أفرز اختلافاً ثقافياً انعكس على السطح وأدى إلى هوة واسعة بين دولتين جارتين من مخزون واحد، ونحن إذ نكتب اليوم عن العرب والتحدي الثقافي فإننا نضع أيدينا على واحدة من أسباب الصدام وعوامل المواجهة على الساحة الدولية والإقليمية، ويهمنا هنا أن نطرح أمام القارئ عدداً من المحاور التي تمثل ظواهر متشابكة في هذا السياق ومنها:
أولًا: إن اللغة- أي لغة- هي الجزء الأكبر من هوية الأمة وتحديد شخصيتها ولغتنا العربية تتميز بالثراء والمحسنات البديعية والمبالغة اللفظية مع وفرة في المرادفات تجعلها واحدة من أهم لغات العالم ولكنها تبدو فضفاضة أحياناً بحيث تحمل الكلمة الواحدة أكثر من معنى ويتدخل النحو لتحديد المقصود اللفظي من بين المعاني المختلفة، وكثيراً ما أدهش لنماذج من الأجانب، خصوصاً من أوروبا وشرق آسيا الذين يتعلمون العربية ويسيطرون على أدواتها في شكل ملحوظ على رغم أن لدينا مشكلة أخرى في لغتنا وهي وجود اللغة الكلاسيكية العربية الصحيحة وإلى جانبها لهجات محلية مختلفة بين الأقطار بل وقد تختلف في داخل الدولة الواحدة، وأظن أن الحفاظ على اللغة العربية ومقاومة التيارات التي تسعى لاختراقها مع دعم جهود التعريب هذه كلها أمور تمثل بالتأكيد درجة من التحدي الثقافي للعرب في أعز ما يملكون وهو لغتهم القومية.
ثانياً: إن أزمة التعليم في العالم العربي قد انعكست بالتبعية على المناخ الثقافي وعلى قضية البحث العلمي أيضاً، فأصبحنا أمام وضع لا يمكن إغفاله وهو أن مكونات العقل العربي المعاصر من تعليم وثقافة وبحث علمي بل وخطاب ديني ورسالة إعلامية قد دخلت جميعها في دائرة ضيقة تعبر عن الأزمة الشاملة للتعليم العربي وملحقاته، ولقد لاحظنا أن الدور الإقليمي لأي دولة عربية يتأثر تلقائياً بأزمة التعليم فيها، ولو ضربنا مثالاً بالدولة المصرية التي تملك قدراً كبيراً من مصادر القوى الناعمة فإننا نستطيع أن نقرر أن الدور المصري قد تراجع إقليمياً مع تراجع التعليم وانحسار الثقافة ولو موقتاً في العقود الأخيرة وذلك يؤكد أن التحدي الثقافي يشتمل على مؤثرات متعددة تصب في النهاية في وعاء الأزمة التي تجسد التحدي الحقيقي أمام العرب.
ثالثًا: إن التأثيرات الأجنبية على الثقافة العربية هي أمر لا يمكن إغفاله بدءاً من نزعات التغريب ودور المستشرقين حتى اليوم ولا تقف المشكلة عند هذا الحد بل تتجاوزه إلى الاختلاف القائم بين تلك المؤثرات ثقافياً، فعرب المشرق قد خضعوا لمؤثرات ثقافية أجنبية ربما أقل من تلك التي خضع لها عرب شمال أفريقيا لأن النفوذ الفرنسي كان ثقافياً قبل أن يكون سياسياً لذلك فإنه من العبث أن نتصور أن اختلاط الثقافات الوافدة على العالم العربي لا تمثل تحدياً إضافياً منافساً للثقافة العربية بمفهومها الشامل.
رابعاً: إن وجود الأقليات الدينية والعرقية في العالم العربي هو الآخر أمر يختلف حول تأثيره الخبراء والباحثون فهناك من يرى- وأنا منهم- أنها نعمة لأنها تعني التعددية الثقافية التي تثري الهوية في النهاية بينما يرى آخرون- ولست منهم- أنها نقمة تؤدي إلى الانتقاص من التأثير الثقافي للعروبة على رغم أن هناك عرباً قد يختلفون في الدين ولكن عروبتهم ليست محل جدال من الناحيتين التاريخية والثقافية، لذلك فإن وجودهم إضافة إيجابية وليست طرحاً سلبياً من المضمون القومي برمته، وليس من شك في أن التنوع الثقافي الوارد من بعض الأقليات إنما يمثل روافد مطلوبة لإثراء الهوية وهو أمر لا نعتبره تحدياً ثقافياً ولكنه عنصر في تعزيز أصولها.
خامساً: إن غياب المشاركة السياسية وضعف الديموقراطية ونقص ضمانات الحريات تمثل كلها انتقاصاً مباشراً من تماسك الأمة وانصهار مكوناتها وهذا أمر يضيف إلى التحدي الثقافي بعداً جديداً ويجعلنا أمام هوية معقدة تبدو غريبة عن روح العصر مجافية لمواثيق حقوق الإنسان بل إن البعض يذهب إلى ما هو أكثر من ذلك، معتبراً أن ضعف الديموقراطية وظهور بعض النظم الاستبدادية في العالم العربي هو نتاج للثقافة العربية في بعض جوانبها السلبية والتي تقوم على طاعة الزعيم والإيمان المطلق بمنطق القوة في التأثير على العلاقات بين البشر، فالعربي يعرف معنى العشيرة وقيمة شيخ القبيلة ولكنه قد لا يدرك باهتمام التفاصيل والفرعيات مثل التمثيل السياسي أو رعاية حقوق الإنسان أو حتى احترام الأقليات وصيانة البيئة، من هنا فإننا نرى أن استمرار الحماسة للماضي والانفصام عن الحاضر هو واحد من أكبر ثغرات الثقافة العربية.
سادساً: إننا نؤمن بحق أن الاستسلام للماضي وترديد مقاطع الشعر من ديوان الحماسة والاستسلام لشعارات من مثل (أمجاد يا عرب أمجاد) فنحن أمة ماضوية تعيش في الماضي ولا تستطيع أحياناً التكيف مع الحاضر أو حتى التهيؤ للمستقبل، وقد آن الأوان لفتح الأبواب أمام الدراسات المستقبلية، إذ إن التقدم العلمي، خصوصاً في وسائل الاتصال، قد فتح أبواباً واسعة أمام حركة الجماهير لتتجه في دروب جديدة من العمل البناء والقدرة الزائدة على بلورة المظاهر الثقافية التي تتشكل منها عناصر الهوية. لذلك فإن الاستسلام المطلق للماضي هو نقيصة من نقائص التحدي الثقافي وأحد مظاهره السلبية أمام العرب حتى بلغ بهم الوضع أن نعتهم شاعر كبير بأنهم ظاهرة صوتية.
سابعاً: إن تهالك منظومة القيم والتقاليد في بعض الدول العربية مع تراكم الخبرات السلبية قد أدخلت بدورها عوامل ضعف جديدة وكانت انتقاصاً طبيعياً من القيمة الحقيقية للروح العربية السائدة ولأن الوطن العربي يقف على أنقاض حضارات قديمة فقد أصبحت شخصيته هي سبيكة منها جميعاً وبكل ما لها وما عليها، ولا شك أن التضارب الذي يحدث أحياناً بين القيم الموروثة والتقاليد المتعاقبة قد أدى بدوره إلى ارتباك أحياناً في حالة التجانس الثقافي التي يسعى إليها المجتمع العربي ولنتذكر على سبيل المثال المواجهة المصطنعة أحياناً بين العروبة والفرعونية في مصر كدليل على نوعية المشكلات المفتعلة التي لم يكن لها مبرر.
ثامناً: إن التفاوت الطبقي وشيوع الفقر الذي يمثل قنبلة موقوتة في معظم الدول العربية فضلاً عن غياب العدالة الاجتماعية هي مسألة تستحق التأمل والدراسة، فالتعليم يعتبر قضية وطنية في كثير من دول الوطن العربي، فضلاً عن أنه يمس مساساً مباشراً مسألة العدالة الاجتماعية إلى الحد الذي يجعله أيضاً قضية أمن قومي، فتعددية المدخلات في العملية التعليمية بين تعليم ديني ومدني وعام وخاص ووطني وأجنبي كل ذلك جعل التعليم ظاهرة طبقية تنال من الوحدة الثقافية للأمة وتنتقص من قدرها في إطار مفهوم العروبة، وعندما نربط بين التعليم والعدالة الاجتماعية تحديداً فإننا نضع أيدينا على الجرح الذي لا يجب أن نغفل تداعياته باعتباره أحد مظاهر التحدي الثقافي المعاصر.
تاسعاً: إن ضعف الإنتاج الثقافي ومحدودية حركة النشر هي الأخرى من مظاهر التداعي في صلابة العامل الثقافي العربي، ويكفي أن نتذكر أن مجموع العناوين التي تصدرها دور النشر العربية في كافة الأقطار الناطقة باللغة العربية هي أقل مما يصدر في دولة واحدة مثل إسبانيا، ولذلك فإن ضعف حركة النشر وتراجع النشاط الثقافي هي أمور تضيف ذاتها تحدياً آخر من تحديات الثقافة في العالم العربي.
عاشراً: إن الانسحاب من المنافسة الدولية في الميادين الثقافية تحت تأثير الضغوط السياسية أو تحديات الصراع العربي- الإسرائيلي إنما تمثل هي الأخرى عاملاً إضافياً من العوامل السلبية التي تنتقص من حيوية الثقافة العربية وقدرتها على الحركة وتضعها كثيراً في مآزق لا مبرر لها مثلما هو الأمر بالنسبة للعلاقة مع منظمة اليونيسكو الدولية والدور العربي فيها خصوصاً في السنوات الأخيرة.
هذه دراسة سريعة للعوامل العشرة التي تؤثر سلباً وإيجاباً في الكيانات الثقافية العربية وتخلق التحدي بينها وبين الواقع العربي المعاصر… إنها موجز للعلاقة بين العرب والتحدي الثقافي.