IMLebanon

العرب وثلاثية التطرّف الديني والغلوّ

شاءت إرادة الله تعالى بعد خلق السماوات والأرض أن يخلق الإنسان، ليكون هذا الإنسان المثال في تلاقي إرادة الإيمان مع نعمة العقل، فالإيمان والعقل هما معاً النموذج الخيّر للإنسان الذي أراده الله، بقوله لملائكته «إني جاعل في الأرض خليفة»، قالت الملائكة للباري عز وجل «أتجعل فيها مَن يفسد فيها ويسفك الدماء»، قال الله لملائكته: «إني أعلم ما لا تعلمون«.

هذا الحوار الإلهي مع ملائكة الرحمن يعطي لنا معشر الناس الصورة الحقيقية عن جدلية العلاقة بين الإنسان والالتزام الديني، وعن آفة التطرّف والغلوّ الوافدة إلى أي مجتمع أكرمه الله بدينه الحنيف، وابتلاه بآفة التطرّف والغلو وحالات التكفير والتكفير المضادّ، وهذا ما يعانيه شرقنا العربي وبخاصة في فلسطين وسوريا والعراق واليمن خدمة لمشاريع إقليمية ودولية متناحرة على أرضنا، فمن مشروع تلمودي/ صهيوني متطرّف في فلسطين، إلى مشروع صفوي فارسي متطرّف آخر في إيران ومشروع داعشي متطرّف وإرهابي يلاقي هذا وذاك، والمنطقة العربية بمسلميها ومسيحييها ضحايا هذا التطرّف والإرهاب، الناتج عن هذه المشاريع الثلاثة.

فالتطرّف هو المغالاة وتأويل النصوص الدينية لخدمة مصالح دنيوية متنوّعة سياسياً وسلطوياً، وإيهام الرأي العام بأنّ التشدّد والمغالاة هما صحيح الدين، والدين في حقيقته بريء من هذه الادّعاءات والترهات والأخطاء والخطايا التي تسيء إلى الإنسان وتشوّه إنسانيته، ومنها قطع الرؤوس، والحرق، والاغتصاب، ورفع الشعارات المذهبية أو الدينية لنصرة هذا المشروع أو ذاك.

وظواهر التطرّف ليست جديدة في عالم الحروب والسياسة والاقتصاد والاجتماع، وأسوأ أنواع التطرّف وأخطرها هو أن يكون هذا التطرّف أو ذاك، باسم الله تعالى أو باسم الدين أو الفرقة أو المذهب، حينها يتحوّل التطرّف إلى إرهاب، والإرهاب إلى توحّش، كما هو في الصراع الدائر في سوريا والعراق، والتوحّش هذا هو حكماً يتناقض مع إرادة الله، ومع كل ما جاءت به الكتب السماوية من توراة، وانجيل وقرآن، التي أنزلها الله تعالى على الأنبياء والرسل الذين بعثهم تعالى لبني البشر ليحكموا بين الناس بالعدل، وليعملوا على إزالة أسباب الخلاف، ليعود الناس أمّة واحدة كما أرادها الله تعالى بقوله في القرآن الكريم «كان الناس أمّة واحدة فبعث الله النبيين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه«.

والمتتبع للنصوص والآيات القرآنية والأحاديث النبوية يتأكد له، أن الإسلام يرفض رفضاً قاطعاً كل أنواع التطرّف والغلوّ والتكفير والتكفير المضاد، انطلاقاً من قول الله تعالى لكل الناس «قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ« (136 سورة البقرة).

فالإسلام هو دين الدعوة إلى عبادة الله الواحد، وهو دين الرحمة لبني البشر بقوله تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام «وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين»، وهذا يعني أنّ على كل مسلم ومسلمة، أن يكونا رحمة لكل الناس بأقوالهما وأفعالهما في حالات السلم وفي حالات الحرب.

ومن أجل ذلك كان قول الرسول عليه الصلاة والسلام «المسلم من سلِم الناس من لسانه ويده» وقول خليفته الأول أبي بكر الصديق لجنوده وهم في حالة الحروب الدفاعية (لا تقتلوا طفلاً ولا شيخاً ولا امرأة ولا أسيراً ولا تقطعوا شجرة وستجدون أناساً في صوامعهم فدعوهم وما يعبدون).

وباعتقادي أنّ رسالة المسيح عليه السلام هي رسالة المحبّة والإيمان بالله، وهي رسالة الأنبياء والرسل جميعاً.

فكم هو جميل أن تتلاقى رسالة الرحمة عند المسلمين، ورسالة المحبّة لدى المسيحيين لمكافحة كل أنواع الإرهاب والتطرّف والغلو والتكفير والتكفير المضادّ.

فالإرهاب لا وجود له في الدين الذي أنزله الله تعالى على ابراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب ويوسف وموسى والمسيح عليهم السلام، وحكماً لا مكان له في رسالة محمد عليه الصلاة والسلام.

والإرهاب المغطّى بالدين هو بضاعة مستوردة إلى شرقنا العربي، بدأ في منتصف القرن الماضي على أرض فلسطين المقدسة، وأدى إلى تهجير وتشريد الشعب الفلسطيني بمسلميه ومسيحييه.

وهذا يعني أننا جميعاً مسلمين ومسيحيين، ضحايا الإرهاب الناتج عن احتلال الأرض كما هو حاصل في فلسطين، أو نتيجة أطماع بعض الدول الإقليمية وخصوصاً إيران الطامحة لنشر مشروعها السياسي، والديني من منظور قومي فارسي في البلدان العربية وحتى الإسلامية، وحكماً المشروع الداعشي وأخواته في المنطقه الجريحة.

والتطرّف لا يمكن أن يستمر إلاّ بتطرّف مضادّ، لأنّ كلاهما بحاجة إلى الآخر، حتى وإن كان هذا التطرف أو ذاك متناقضين في الأهداف والغايات.

والإسلام ضدّ كل أنواع التطرّف والإرهاب لأنّه دين الرحمة والحوار والتلاقي والتعارف واحترام الرأي الآخر أياً كان هذا الرأي بقوله تعالى «لا إكراه في الدين»، وقوله لنا كمسلمين «وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ». (46 سورة العنكبوت)

والإسلام أكد على ضرورة الحفاظ لكل الناس على اختلاف ألوانهم وأعراقهم ولغاتهم، على الكليات الخمس التي يحتاجها الناس، وهي: الدين النفس المال العقل والعرض.

وقد نبّه الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله «إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك مَن كان قبلكم بالغلو في الدين»، والغلو يعني التطرّف، وهو المبالغة في الشيء، والتشدّد فيه بتجاوز الحد.

ولا يمكن للدين الذي أنزله الله أن يكون داعماً للمغالاة والتطرّف، ولا يجوز أن نسيء إلى الإسلام أو إلى أي دين آخر، إن ظهرت من بعض أتباعه ظواهر تطرّف، لكن علينا أن ندرس أسباب ومسبّبات هذه المغالاة ليُبنى على الشيء مقتضاه.

ومن المؤكد أننا في هذه المنطقة العربية مسلمين ومسيحيين، ضحايا الإرهاب الذي مارسته علينا العديد من القوى الإقليمية والدولية، مع إصرارنا في هذا الشرق العربي، بأننا معاً ننتمي إلى هذه الأرض وليس بيننا أقليات أو أكثريات أو جاليات، جميعنا أبناء وطن واحد وأمّة واحدة، منها مَن آمن بالإسلام، ومنها مَن آمن بالمسيحية، والقرآن الكريم واضح في تعامله مع أهل الكتاب، أي مع الذين أنزل الله عليهم التوراة أو الانجيل، بقوله تعالى «ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وانهم لا يستكبرون»، وما ذلك إلاّ تأكيداً على الاحترام والمودة، واحترام الرأي والرأي الآخر والحفاظ عليه.

فليست المشكلة في شرقنا العربي في أكثرية أو أقلية، سواء كانت إسلامية أو مسيحية، لكن المشكلة في ظاهرة الإرهاب الناتجة عن مشروع صهيوني من هنا، ومشروع فارسي، ومشروع داعشي إرهابي من هناك، وكل المشاريع تعبث بأمن البلاد والعباد، وتنتج ظلماً وتهجيراً وقتلاً واغتيالات، وتهيئ الأجواء لنشوء ظواهر التطرّف والغلو، المتناقضة تماماً مع رسالة الأديان وبخاصة رسالة الإسلام، رسالة الإيمان والوسطية والاعتدال والرحمة والتعارف بين الناس، قال تعالى «يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم».

() رئيس المركز الإسلامي للدراسات والإعلام