يعيش العرب منذ سنوات وسط انقلابات متلاحقة. لا يستطيعون غ َّض الطرف عنها. إنَّها تدور على أرضهم أو حولها. وتمس أم َن دولهم وشعوبها واستقرارها. ولا مبالغة في القول٬ إن الشر َق الأوسط القديم قد ذهب إلى غير رجعة. وإ َّن النظام الإقليمي السابق انهار ولم يعد قابلاً للترميم. وواضح أ َّن المرحلة الحالية المكلفة هي مرحلة انتقالية. لكن من المبكر التكهن بالملامح التي سيكتسبها النظام الإقليمي الجديد٬ لأ َّن بعضها يتوقف على نتيجة ما تعيشه المنطقة من مواجهات وتجاذبات.
شكلت الحرب السورية المفتوحة فرصة لكشف مشاريع انقلابية وتسهيل انطلاق أخرى٬ وتوفير الشروط لتغييرات كبرى في الخيارات والسياسات. كشفت الحرب السورية حجم البرنامج الانقلابي لإيران. برنامج يرمي إلى تحويل إيران دولة كبرى محلية٬ في إقليم يبقى العالم معنّيًا بتوازناته وثرواته٬ على الرغم من تزايد الكلام عن تراجع أهميته.
تم ُّسك إيران بالبرنامج الانقلابي الكبير٬ تجلَّى بوضوح من خلال رفضها أي تغيير في الحلقة السورية من هذا البرنامج. ففي بداية المواجهات المسلحة في سوريا٬ أبلغ المرشد الإيراني٬ علي خامنئي٬ زائ ًرا عربًيا٬ موقفًا قاطًعا مفاُده «تكون سوريا كما كانت أو لن تكون لأحد»..
حاولت إيران أي ًضا دفع برنامجها إلى مرحلة أوسع وأشمل. سعت إلى إضافة الحلقة اليمنية إلى ما تعتبره فتوحاتها في الإقليم٬ خصو ًصا بعدما تعذر عليها إحداث ثغرة عبر البحرين في برنامجها لتطويق السعودية. وفي إطار ردع محاولة التطويق هذه٬ يمكن فهم الرّد السعودي على الحلقة الحوثية من برنامج التطويق الإيراني.
تعاملت إيران مع الحرب في سوريا بوصفها قصة حياة أو موت لبرنامجها الذي يرمي إلى توفير ممر مضمون عبر العراق وسوريا٬ وصولا إلى المرابطة على شاطئ المتوسط عبر لبنان. ولا غرابة أن يثي َر مشروع الانقلاب الإيراني المخاوف٬ ذلك أنه يطيح بتوازنات تاريخية بين المكونات الأساسية في الإقليم٬ خصو ًصا بعدما تمكنت الرياح الإيرانية من التسلل إلى داخل النسيج الوطني في أكثر من دولة. وعثرت طهران على فرصتها الذهبية٬ حين لم ترفق الدول الكبرى اتفاقها النووي مع إيران بأي شروط تقّيد استمرارها في الانقلاب الإقليمي٬ الذي عاودته بنشاط بعد سقوط نظام صدام حسين.
وفّرت المأساة السورية للقيصر الروسي فرصة تنفيذ انقلاب واضح على التوازنات الدولية التي قامت غدا َة انتحار الاتحاد السوفياتي. أفاد فلاديمير بوتين إلى أقصى حّد من الميول الانسحابية لدى باراك أوباما وخشيته من التورط في الجمر السوري. تدخلت روسيا عسكرًيا وقلبت مسار الحرب السورية. رفعت شعار مكافحة الإرهاب٬ لكنها سّددت٬ عملًيا٬ ضربا ٍت قاصمة إلى أحلام المعارضة السورية المعتدلة. من القرم إلى أوكرانيا٬ ووصولاً إلى سوريا٬ بعثت روسيا برسالة مفادها أن عصر القطب الوحيد قد انتهى ومعه زمن الثورات الملونة. بدت أميركا مبتعدًة٬ وبدت أوروبا كمن ينوء تحت أعباء قوافل المهاجرين وتصاعد أصوات الراغبين في القفز من القطار الأوروبي.
التقى الانقلابان الروسي والإيراني على الأرض السورية والعربية. لا يمكن الحديث عن تطابق أهداف الانقلابين٬ لكن من التسرع الاعتقاد أن التباي َن حول الحل السياسي في سوريا ومستقبل نظامها سيقود حت ًما إلى افتراق أو تصادم.
وجدت تركيا نفسها على خط التماس مع الانقلابْين الروسي والإيراني في سوريا. ساهمت سياسة أوباما الكردية٬ ومعها ضعف الروح الأطلسية٬ في إقناع رجب طيب إردوغان بط ِّي صفحة الاحتكاكات مع القيصر٬ والانتقال إلى مرحلة التفاهمات٬ والرقص معه فوق المسرح السوري. مرارات ما بعد محاولة الانقلاب التركية ضاعفت ميل الرئيس التركي إلى الذهاب أبعَد في التطبيع والتعاون مع روسيا وإيران والعراق. سقوط حلب ومعارك الباب ومنع أكراد سوريا من وصل أجزاء «إقليمهم» يمكن أن تفهم في ظل هذه الصورة المعقدة. والسؤال الذي ُيطر ُح اليوم هو: هل تواصل أنقرة ابتعادها التدريجي عن أميركا وأوروبا لتقترب أكثر من روسيا و«الحقائق الجديدة» في المنطقة٬ أم أنها تنتظر خيارات إدارة دونالد ترامب في التعاطي مع الانقلابين الروسي والإيراني؟ ولا شك أ َّن أي يأس من العودة الأميركية الفعلية إلى ملفات المنطقة٬ سيجعل من التغييرات التركية شيئًا يشبه الانقلاب الثالث في الإقليم.
ذكرتني زيارة رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم٬ قبل يومين٬ إلى بغداد٬ بكلام سمعته فيها قبل سنوات٬ من الدكتور أحمد الجلبي. قال إن الشرق الأوسط يتَّجه إلى تغييرات كبرى لا تصلح الحسابات القديمة في قراءتها أو اتقائها. مضيفًا: «ضع إيران ومعها العراق. وأضف إليهما سوريا ولبنان. كتلة سكانية ونفط وغاز وموقع استراتيجي. إذا نجحت في إقناع تركيا بالانضمام إلى هذا التجمع٬ ولو اقتصادًيا٬ ستكتشف روسيا أن من مصلحتها توثيق علاقاتها مع تجمع بهذا الحجم. واضح أن أميركا ترغب في الابتعاد».
يراقب العربي الانقلابات والتحولات ويسأل عن موقع العرب في الإقليم. لا شك أن أصحاب الانقلابات ينتظرون وصول ترامب لمعرفة ما إذا كانت أميركا في وارد ضبط الانقلابات أو لجمِ حدودها. ولا شك أن أ َّي قبول أميركي بالتوقيع على نتائج الانقلابات سيضاعف مسؤولية العرب في إعداد أنفسهم للدفاع عن أمنهم واستقرارهم وموقعهم.