يصف ونستون تشرشل ( أيقونة السياسة البريطانية ورئيس حكومتها الأسبق) الادارة الاميركية بأنها « تتخذ القرار الصحيح.. ولكن بعد أن تجرب كل القرارات الخاطئة «.
ومنذ الانسحاب الاميركي المذلّ من فيتنام في نيسان ابريل من عام 1975 ( أي قبل 40 عاماً) وما رافقه من توالي الرؤساء الأميركيين، فان هذا التوصيف لا يزال قائماً حتى اليوم. ويبدو ذلك واضحاً في تعثر، وحتى في فشل السياسة الاميركية لاحتواء الصين في شرق آسيا، والاتحاد الروسي في شرق أوروبا، وفي انعكاسات هذين الفشلين معاً على السياسة الأميركية في الشرق الأوسط.
في الأساس، كان الهدف الاستراتيجي من التورط الأميركي في فيتنام هو منع انتشار الشيوعية في شرق آسيا وتقليم أظافر الصين. ولكن النتيجة جاءت على العكس تماماً. فقد وقعت كمبوديا بين براثن «الخمير الحمر»، وتحولت لاوس الى الشيوعية، وتمكنت فيتنام الشمالية (الشيوعية) من السيطرة على فيتنام الجنوبية التي كانت تحت الهيمنة الأميركية، وخرجت الصين من القمقم مارداً جباراً !!
انعكست هذه التطورات على الشرق الأوسط مباشرة، فبادر الاتحاد السوفياتي الى غزو افغانستان واحتلالها. ثم قامت الثورة الاسلامية في ايران التي أطاحت برجل أميركا في الشرق الشاه محمد رضا بهلوي، لتدخل المنطقة منذ ذلك الوقت مرحلة جديدة من مراحل صراع لعبة الأمم. فقد بادرت الولايات المتحدة الى الاعتماد أكثر على اسرائيل ووفرت لها المزيد من الحماية السياسية والمزيد من الدعم العسكري والاقتصادي. فكانت تلك المبادرة الأميركية بمثابة ضوء أخضر للتوسع العدواني الاسرائيلي الذي تجسد فيما بعد في حرب يونيو حزيران 1967.
أدركت الادارة الأميركية خطأ قراراتها في شرق آسيا، وفشل حساباتها في المنطقة امتداداً حتى الشرق الأوسط. فلجأت الى القرار الصحيح. ويتمثل ذلك في الانفتاح على الصين بدلاً من مجابهتها، وهي المبادرة التي قام بها الرئيس ريتشارد نيكسون في عام 1972 مع وزير خارجيته في ذلك الوقت هنري كيسنجر. وقد حققت تلك المبادرة هدفها في امتصاص جزء كبير من الانعكاسات المهينة للإدارة الأميركية التي تسببت بها القرارات الخاطئة السابقة.
ولكن مفاعيل هذا القرار الصحيح انتهت الآن. فالولايات المتحدة حاولت من خلال الانفتاح على الصين اقامة حلف معها ضد الكرملين. ولكن الكرملين قطع الطريق أمام هذا الحلم الأميركي. يؤكد ذلك تبادل الزيارات بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جين بينغ، كما يؤكده اتفاق الدولتين على أكبر صفقة في التاريخ لتصدير النفط والغاز الروسي الى الصين. وجاء هذا الفشل الأميركي في الوقت الذي تواجه فيه روسيا حصاراً اميركياً عبر أوروبا، على خلفية المشكلة في اوكرانيا.
ولعل الموقف الروسي في مجلس الامن الدولي بالامتناع عن استخدام حق النقض الفيتو لتعطيل قرار المجلس بتأييد عاصفة الحزم في اليمن، يعكس بداية تحول في السياسة الروسية في الشرق الأوسط. وكانت روسيا قد استخدمت الفيتو ثلاث مرات ضد مشاريع قرارات ايدتها المجموعة العربية بشأن الوضع المأسوي المدمر في سوريا.
وتلقفت الولايات المتحدة تلك الهدية الروسية المجانية لتعميق الهوة بين الكرملين والعالم العربي.. من دون ان تتخذ هي واشنطن اي مبادرة عملية تساعد على وقف النزيف الدموي والتهجير الجماعي الذي يعاني منه الشعب السوري على مدى السنوات الأربع الماضية. وكان ذلك ايضاً واحداً من القرارات الاميركية الخاطئة.. التي تحتاج بعد استنفادها.. الى قرار صحيح، على حد قول الرئيس البريطاني الاسبق ونستون تشرشل !!
وحتى عندما قررت الولايات المتحدة اعطاء الاولوية لتوجهها من المحيط الأطلسي الى المحيط الباسيفيكي، كانت تعتقد أنها سوف تستبدل بذلك الأعباء العسكرية التي لا تزال تتحملها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومنذ اقامة حلف شمال الأطلسي، بمنافع ومكاسب الأسواق والامكانات المالية والاقتصادية في شرق آسيا. ولكن أزمة أوكرانيا وما فجرته من مضاعفات سياسية ومن أخطار عسكرية، كبحت جماح هذا التحول الاستراتيجي. ذلك ان صديقاً (أوروبة الغربية) في اليد، خير من عشرة ( دول شرق آسيا) على الشجرة !!
رغم ذلك، فشلت الولايات المتحدة في اقناع حليفاتها الدول الأوروبية بعدم الانضمام الى المشروع الصيني بإقامة مصرف دولي للتنمية. فخلافاً للحسابات الأميركية، فان الصين بقوتها الاقتصادية الجديدة، اصبحت قادرة على املاء قواعد اللعبة الدولية التي كانت الولايات المتحدة تعتبرها حقاً حصرياً لها.
لقد أصبح بإمكان بكين اليوم اقامة تحالف دولي اقتصادي مالي تستبعد منه واشنطن التي احتكرت لعبة الأمم مع الاتحاد السوفياتي السابق منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى !
وفي الحالتين، كان الشرق الاوسط يدفع ثمن قرار التحول.. وثمن قرار اعادة النظر به. فبموجب قرار التحول كانت اسرائيل تعتبر رأس جسر للمصالح الأميركية في المنطقة مما يتطلب تقديم المزيد من الدعم والمساعدة لها.. وبموجب قرار اعادة النظر فان اسرائيل تتجذر في موقعها المتقدم في منظومة الدفاع العسكرية الاميركية.. مما يعني ايضاً استمرار دعمها ومساعدتها !!
في ضوء هذه المتغيرات في المعادلات السياسية، والتحولات في موازين القوى الدولية، يقف العالم العربي مرة جديدة موقف المتفرج.. عاجزاً ليس فقط عن التأثير، انما حتى عن المتابعة!!.