كان أيار شهر النكبة، وحزيران شهر النكسة. الأولى، ضياع فلسطين وإسرائيل لم تولد بعد، والثانية، ضياع العرب، وإسرائيل لم تُكمل عشرين عاماً. قُصِف سلاح الجو المصري وهو رابض في القواعد، كما قصف هتلر طيران الاتحاد السوفياتي قبل أن يصدّق ستالين أن صديقه خرق “معاهدة عدم الاعتداء” وأرسل ثلاثة ملايين جندي يجتاحون روسيا وملحقاتها.
الحروب تقوم على الخداع والتمويه، منذ أن هُزم هنيبعل في حرب روما لأنه افتقر إلى 50 فيلاً إضافياً. في النكبة، قيل إنها مسؤولية “الأسلحة الفاسدة” والرجعية العربية. لذلك، حلّت الثورية العربية محلّها. وبدل “الأسلحة الفاسدة” زوَّدنا الاتحاد السوفياتي أفضل ما لديه، بما فيه الدبابات، سلاحه الوحيد الذي تفوّق على اجتياحات هتلر.
العام 1938 قدّم أورسون ويلز على الراديو الأميركي مسرحية خيالية مأخوذة من كتاب هـ. ج. ويلز “حرب العوالم”. بصوته الجهوري العميق ومهارته الخارقة، راح يشخّص كيف وصلت مخلوقات فضائية من المريخ وهبطت في نيوجيرزي وراحت تزحف على نيويورك، لا شيء يُوقفها ولا قوة تردّها. كان نحو 6 ملايين شخص يصغون إلى البرنامج. مليون منهم لم يتابعوه من البداية، فاعتقدوا أن الهجوم حقيقي، وطفقوا يهربون في كل اتجاه.
عندما وصل إلينا العصر الإذاعي، كان قد طرأ عليه تطور ساحر: لم تعد الإذاعة تُسمع فقط في المنزل، بل حملها الترانزيستور الياباني إلى الحقول والساحات والطرقات. وتحوّل الشعب العربي، برمَّته، إلى شعب سامع. فالراديو ينقل إليه أمانيه وأحلامه، إضافة إلى نجاويه واهتزازات المشاعر التي تحرّكها أم كلثوم، مرة في قصيدة، مرة في نشيد وطني، ومرة في “أنت عمري”. وكان كل ذلك جميلاً. ومثلما شدّ أورسون ويلز الناس إلى الراديو، شدّهم أحمد سعيد إلى الترانزيستور. لكن سحر الإلقاء شيء، وسوء التقدير شيء آخر.
عظَّم أحمد سعيد حجم التوقّع، فعظُم حجم الخيبة. خسر عبد الناصر على الجبهة العربية في الوحدة مع سوريا، ثم في اليمن، وها هو يخسر الحرب مع إسرائيل قبل أن تبدأ، وقوات “جيش الدفاع الإسرائيلي” تحتلّ القدس والجولان وسيناء والضفة الغربية.
عُزِلَ أحمد سعيد وانصرف إلى الزراعة. عندما حرّر أنور السادات سيناء بالتفاوض، رفض العرب ذلك واعتبروه خيانة. فهذا يردّ الأرض، لكنه لا يردّ الكرامة. تلك لا يردّها إلا نصر في منازلة عسكرية. لكن المنازلة لم تأت. وبعد الهزيمة جاء الانكسار. ومع الانكسار إخفاق اقتصادي قارَب العوَز. وفشلت الأنظمة العسكرية في تحويل الاشتراكية إلى جدوى عادلة، كما حدث في بريطانيا وفرنسا ودول اسكندينافيا وكندا. وحاولت الأنظمة تغطية الهزيمة بالإذاعة، مضافاً إليها الاختراع الجديد، التلفزيون. وبعد الثورية والاشتراكية، راح الناس يتطلعون إلى الوراء، إلى التراث والتاريخ وانتصارات خالد بن الوليد وصلاح الدين.
عندما أسّس ياسر عرفات حركة “فتح” في الكويت كان جميع الرفاق من الإخوان المسلمين، سابقين أو حاليين، ربما، باستثناء محمود عباس. ومن الإخوان سوف تُولد أفكار وتيارات أخرى، جميعها تتطلع إلى “الماضي” بدرجات متفاوتة ونزعات مختلفة.
بعد نصف قرن على إعدام سيد قطب، ورَمي الإخوان في السجون، وصل محمد مرسي إلى رئاسة مصر، كرسي عبد الناصر. السجون السياسية في مصر والعراق وسوريا وليبيا، ولَّدت المزيد من المتاهات والتائهين. وفي الضياع السياسي والفكري نشأت نزعة عنفية مريعة، تستند هي أيضاً إلى بعض السوابق في العصور السالفة. والذين أخفقوا في طلب النصر على العدو، أخذوا يطلبونه حيث أمكن، متجاوزين الأنظمة أحياناً في تشريع العنف والموت والقتل. وتحوّلت الحرب من الجبهات إلى متفجرات الشوارع، وعمّ الموت العواصم. ثم بدأت مرحلة الركام الكبير.
انصرفت أوروبا المهزومة إلى العمار والعلم. إلى المستقبل. بدل أن تسير خلف الخطباء سارت خلف كونراد إديناور وهارولد ماكميلان وشارل ديغول. الأفاضل الثلاثة عملوا على أولوية أولى: وحدة ألمانيا ووحدة بريطانيا ووحدة فرنسا. عملوا على رفع شعوبهم من العوَز إلى الكفاية والصناعات والكرامة البشرية، المتمثّلة بالضمانات الاجتماعية وفُرص العمل، ورفع مستوى العلم، وحجم التعليم وبسط القانون.
تعلّمت أوروبا من المحنة الفاشية التي مرّت بها، يوم خرجت تصفّق للذين أهالوا عليها التراب. حتى تشرشل، مُنقذ بريطانيا في الحرب، أُسقط في الانتخابات، وقال له البريطانيون، نريد زبدة أرخص ودفئاً في البيوت، وإلا كيف لنا أن نفكّر ونعيش ونعيد البناء.
المسألة في العالم العربي أن المسؤولين عن الهزيمة يكَلَّفون الإنقاذ. وأبطال الحروب يكلَّفون السلام. بعد 1967 ازداد عدد الأنظمة العسكرية. و”البعث” الذي قام على أنه حركة شعبية اشتراكية إنسانية، تحوّل إلى ثُكن متقاتلة. وفي العراق تحوّل إلى حروب في كل اتجاه باستثناء فلسطين. وكان القادة العرب يلتقون في القمة فيتعانقون، وفي اليوم التالي يزحف العراق على الكويت ليُزيلها من الوجود. ولوزير الإعلام العراقي لطيف نصيف جاسم، ألطف اللطائف في هذا الباب، عندما قال للصحافيين الأجانب: Forget Kuwait? Kuwait. والمقاومة الفلسطينية خاضت حربين متوازيتين، واحدة ضد إسرائيل على الأطراف، وواحدة في قلب عمّان وقلب بيروت. وفي بيروت لم نعد نعرف إن كان مَن يقصف المخيمات هم الانعزاليون أم الوطنيون.
في غياب ثقافة البناء عمَّت ثقافة التدمير. وتكاثَر زعماء الزواريب. واستُسيغت لغة الشارع. هُدمت بنية الدولة وتقاليد المؤسسات وطغَت لغة الجلْوَزة. ولم يعد القبضاي ذلك البيروتي الظريف باللهجة “الكلاويّة”، بل صار سياسياً على التلفزيون، لا تستطيع أن تعرف إن كان يتحدث باسم وطنه أم باسم زاروبه. لكن التعابير واحدة تقريباً.
أوروبا المهزومة طفَقَت تبني. تضاعف عدد الجامعات. تضاعف عدد المصانع. والألمان الذين قال هابرماس إنهم “يوالون الزعيم” وحده، مثل المصريين، انتقل ولاؤهم إلى الإبداع والابتكار والعمل. ونفضت ألمانيا الغربية ركام الحرب العالمية برمّتها، لتصير ثالث اقتصاد في العالم. الثاني كان قفير النحل الآخر، اليابان. وفي ألمانيا الشرقية كانوا يهربون بالآلاف ليتنشقوا شيئاً من الحرية في الغرب. ولم يستطيعوا وقفهم إلا بإقامة الجدار. وكان هناك سلاح آخر: سمحوا لهم برؤية مشاهد التلفزيون الغربي. قصص حب، وبرامج فكاهية، وأغاني فرانك سيناترا. أُبقيت الأفلام السوفياتية للثُكن ومراكز التعبئة في الحزب.
نحن – عفو التكرار – قلّدنا ألمانيا الشرقية. وبدل أن نطلب منها خبراء في الصناعة، طلبنا خبراء في الرعب. وعندما وقعت هزيمة حزيران كان مدير المخابرات المصرية صلاح نصر يعرف أسماء جميع أصدقاء سعاد حسني، ويسمع جميع أحاديث مقهى الهيلتون. فاتَه أن يعرف موعد الغارة الإسرائيلية، كما فات ستالين أن يُدرك أن 3 ملايين جندي ألماني كانوا يستعدون للزحف.
كان لا بد أن تُعيدنا العودة إلى الماضي – إلى جميع الماضي. وإلى أحداثه وآلامه وثاراته. ومكان النظام العربي الذي أخفق في إقامة الدولة وترسيخ الوطن، ظهرت الحركات الآتية من ظلام الماضي وظلاماته. حتى أزياء القرون الماضية تعاد على أنها أمجاد. من “الأسلحة الفاسدة” عام 1948، إلى أمة غارقة في بحر من الأسلحة ومحيط من الركام. ثمنها كان يكفي لإلغاء البطالة وإبعاد الفقر ونقل العالم العربي إلى مرحلة أعتاب الكفاية والازدهار. الغنى لتجّار السلاح. لطالما راهنوا على الجهل، ولطالما عرفوا أننا “نجهل فوق جهل الجاهلينا” فلا يجرؤنّ أحد أن يجهل علينا. هذا شعارنا وحياتنا.
من العصر الإذاعي إلى العصر التلفزيوني، من الأثير إلى الفضاء، تحريض على الدمار والثأر والخراب. “الخليفة” البغدادي يُعلن “غداً بغداد، ثم كربلاء”. لم يعد يجد أن من أدبيات الحروب أن يأتي على ذكْر فلسطين بكلمة، أو كلمتين، أو جملة اعتراضية.
أي فلسطين؟ هناك الكثير منها الآن. وبعضها أصعب وأقسى من فلسطين الأولى. والبعض الآخر أقسى من 1948 إذا كان حقاً ظُلم ذوي القربى أشد مضاضة.
تبدأ الهزائم – والانتصارات – في العقل. هكذا حدث لأوروبا. لا تذهبوا بعيداً.