بعدما غطى الإرهاب بالشعار الإسلامي دنيا العرب بدماء أهلها، تمدّد إلى أوروبا بعاصمتها المتوهّجة فناً وثقافة وحباً للحياة، باريس، بعد يوم واحد من ضربته الثالثة في الضاحية الجنوبية، خلال سنة.
«داعش» وحش يعيش على دماء ضحاياه وبها.
في البدء كان «يفضّل» العرب والمسلمين. وهكذا اتخذ من الرقة السورية عاصمة ومركز انطلاق لعملياته، وهي المدينة التي بناها وأعطاها اسمها الخليفة العباسي هارون الرشيد، على ضفاف نهر الفرات الذي تقع منابعه في تركيا ثم يندفع مخترقاً سوريا حتى مدينة دير الزور، حيث ينعطف شرقاً في الأرض العراقية ليلاقي قبيل البصرة نهر دجلة، فيشكلان معاً «شط العرب» ليكون المصب في الخليج العربي.
ثم تمدّد التنظيم في بيداء الأنبار وصولاً إلى الموصل، العاصمة الثانية للعراق، حيث أعلن قائده نفسه خليفة باسم «أبي بكر البغدادي»، قبل أن يواصل زحفه في اتجاه بغداد محتلاً نصف مساحة العراق تقريباً. ومن ثم أكمل سيطرته على أجزاء واسعة من البادية السورية (حيث لا حدود تقريباً بين سوريا والعراق) وصولاً إلى تدمر، عاصمة مملكة زنوبيا، بقلعتها وبقايا المدينة الرومانية التي تقدّم صورة جميلة عن عهدها السابق على المسيحية والإسلام معاً.
على امتداد سنة ونصف السنة من عمر هذه «الخلافة»، سفح «داعش» دماء المئات من ضحاياه، عرباً وكرداً وأزيديين وصابئة وسرياناً وتركماناً وشركساً، أكثريتهم الساحقة من المسلمين، من دون أن يشغله بناء دولة خلافته بالجماجم عن تقديم استعراضات مرعبة، عبر تصوير المذابح الجماعية لقوافل من الناس البسطاء (العمال المصريين في ليبيا وقد اختارهم من الأقباط تغذية لنار الفتنة) أو طوابير ممن وقع في أيديه من الرعايا الأجانب في العراق، فضلاً عن «أسره» مئات الفتيات من الأزيديين «من أجل تمتيع المجاهدين»، وأطفالاً من مختلف الأعراق باشر تجنيدهم وتدريبهم على السلاح إعداداً لأجيال جديدة من «المجاهدين».
في هذه الأثناء، اختار «داعش» أن يوجّه ضربتين قاتلتين، أولاهما في الضاحية الجنوبية من بيروت، مستهدفاً جمهور «حزب الله» الذي قصد بعض مقاتليه إلى سوريا لمساندة جيشها في مواجهة عشرات التنظيمات الإرهابية التي كان بعضها قد وصل بلدة عرسال اللبنانية، واتخذ من جرودها، بل ومن البلدة نفسها «قاعدة خلفية» لعملياته العسكرية في سوريا كما «الأمنية» منها (بمعنى «التفجيرية» في لبنان)، وتحديداً في المناطق الحاضنة لجمهور مناصريه، وأبرزها الضاحية الجنوبية لبيروت. فيما كانت ثانيتها المذبحة التي ارتكبها في «عاصمة النور»، كما يسمّيها الفرنسيون، باريس.
ولقد جاءت هاتان الضربتان في كل من باريس والضاحية الجنوبية لبيروت لتتكاملا في الوحشية وانعدام الإنسانية مع العملية الإجرامية غير المسبوقة التي ارتكبها تنظيم «داعش» ضد ركاب الطائرة الروسية المئتين والعشرين من الرجال والنساء والأطفال الذين قصدوا منتجع شرم الشيخ، طلباً للراحة والاستجمام، ففجّرها في الجو وتناثرت جثث الضحايا فوق رمال سيناء، غير بعيد عن العريش.
هكذا أكد «داعش»، مرة أخرى، أنه وإن تقصّد إيذاء العرب والمسلمين أساساً، فإنه لا يكتفي بضحاياه منهم بل يضيف إليهم الأوروبيين من أهل شرق أوروبا، كما الروس، كما من غربها في عاصمة فرنسا باريس.
إنه عدو الإنسانية جمعاء. عدو الحضارة والتقدم، عدو اليوم والغد.
تحت هذا العنوان، وبعدما اكتوت أوروبا، شرقاً وغرباً، بنار الدماء المسفوحة غيلة في إعصار القتل الجماعي، انتبهت دول الغرب إلى شمولها بخطر الإرهاب الذي لا يقتصر ضحاياه على «العرب»، مسلمين ومسيحيين، بل إن ناره قابلة للتمدد إليها، جواً وبراً، وربما عبر البحر في المقبل من الأيام.
وكان ضرورياً أن تنتبه أوروبا إلى هذا التنظيم الإرهابي «الأممي» في حركته وفي ضحاياه، وإن كان رأسه «عربياً» وشعاره «إسلامياً»، خصوصاً أن العديد من الدول العربية منخرطة في حروب فيها وعليها، مثل سوريا والعراق واليمن الذي يتعرّض لغزو عسكري سعودي مدمّر بلا مبررات مقنعة.
لقد صار «العربي المسلم»، عامة، رمزاً للإرهاب الدولي من موقع «الزعيم – الخليفة» الآمر بالقتل أو «الداعية» جامع المناصرين تحت لواء الإيمان بالدين الحنيف. بل إنه صار شبحاً مخيفاً. صار كل عربي وأي عربي، ولا سيما العربي المسلم، شبحاً مخيفاً وموضع ريبة دولياً، سواء في سفره أو في إقامته في البلاد البعيدة.
حيثما حلّ العربي يحلّ الخوف. ومن البديهي أن تتفاقم العنصرية في مواجهة العربي، ويُنظر إليه على أنه سفاح مدمر للإنسانية، قاتل الأطفال، مقتحم الملاعب الرياضية وجمهورها بالقنابل، مفجّر النوادي الليلية، مغتال الفرح والموسيقى.
لقد نجح الإرهابيون من «الإسلاميين» في دمغ الدين الحنيف ومعه حملة رسالته من العرب بمعاداة الإنسانية. إذ ليس أسهل من تصوير شعوبهم جميعاً بأنهم مجاميع من القتلة والسفاحين في بلادهم كما في البلاد البعيدة، يقتلون المسلمين، كما يقتلون المؤمنين بأديان سماوية أخرى.
لكن الإسرائيليين في مأمن، سواء داخل «دولتهم» التي قامت بالقتل وعليه وطرد مَن يرفض الخروج من أرضه من أصحاب الأرض التي كان اسمها فلسطين، والتي سيبقى اسمها الذي يحمله أهلها فلسطين، ولو هجروا إلى خارج الأرض المحتلة لكي يقيم عليها الإسرائيليون «دولة يهود العالم».
إن التنظيم الإرهابي قاتل الأطفال والنساء والتاريخ والهوية استهدف مصر في العديد من عملياته، التي قد تكون الأقسى والأبشع منها جريمة إسقاط الطائرة الروسية، لكنه قد تبنّى، غير مرة، عمليات قتل وتدمير في بعض أنحاء سيناء وجهات أخرى من مصر، وصولاً إلى القاهرة حيث ضبط رجال الأمن واحدة من خلاياه التي كانت تخطط لعمليات إرهابية في بعض أنحائها.
بل إن استهداف طائرة السياح الروس تكشف أن «داعش» لا يكتفي بقتل الناس، رجالاً ونساء وأطفالاً، وإنما يستهدف ايضاً وأساساً ضرب الاقتصاد المصري بضرب السياحة في مصر، عاصمة ومنتجعات سياحية على البحر الأحمر وخليجه عند شرم الشيخ.
إنه إرهاب منظم بأهداف سياسية محددة: يستهدف الدول العربية تحديداً، وليس المواطنين أو ضيوفهم من السياح والزوار فحسب. إنه يتقصد إيذاء هذه الدول في سمعتها ورصيدها المعنوي، وفي أمنها، ثم وأساساً في اقتصادها.
تكفي صورة طوابير السياح والقادمين للراحة والاستجمام وهم يصدعون لأوامر دولهم، في غرب أوروبا وشرقها، فيغادرون المدن التي نالت سمعة دولية ممتازة في السنوات الأخيرة، مذعورين، يجمعون أطفالهم ويهرعون إلى الطائرات التي أرسلت في «قوافل الإنقاذ» من الخطر الذي يتهددهم إن هم بقوا في هذه البقعة الخلابة في جمالها وفي هدوئها وفي حسن استقبالها ضيوفها.
إن هذه العملية الإرهابية ومثيلاتها إنما تستهدف مصر في سمعتها كبلاد تميّزت بشعارها المرفوع فوق مطاراتها «ادخلوها بسلام آمنين»، وفي رصيد منتجعاتها الحديثة والممتازة طقساً وخدمة للقادمين بطلب الراحة واكتشاف مكامن الجمال الأخّاذ في تلك الرقعة من البحر الأحمر المتميزة بالمرجان وبأصناف متميزة من الأسماك النادرة في أشكالها وألوانها، والتي يندر وجودها في سواحل مختلف أنحاء العالم.
إن عملية شرم الشيخ تستعدي العالم على مصر في أحد أهم مصادر الدخل فيها، وتفسد علاقاتها مع الدول الصديقة. فاختيار الطائرة الروسية لم يكن عبثاً، بل إنه يؤشر على الهدف المطلوب إنجازه بضربة قاتلة لعلاقات مصر بالعالم الخارجي، شرقاً وغرباً، والعرب ضمناً، والتمكين لمحاولات عزلها وحصارها.
إن بين النتائج المباشرة للمذابح التي يرتكبها «داعش»، حيثما مكنته قدراته من الوصول، أن يعود العرب إلى مربع التخلّف والجهل ومعاداة العصر وتشويه صورة انتمائهم القومي وإيمانهم الديني.
وهكذا نشهد مؤتمرات دولية ولقاءات بين أقطاب العالم، غرباً وشرقاً، تعقد لمناقشة الإرهاب، في غياب العرب، وإنْ حضر بعضهم طاردته شبهة التهم حتى تثبت براءته، التي يصعب عليه إثباتها، وهو الضحية وهدف السفاحين من الدواعش.
إن دول العرب تتهاوى، وتنفتح أبواب جهنم عليهم في أرضهم، وها هي نار جهنم تطاردهم في أربع رياح الأرض. ومقابل الإدانة الدولية التي تطاردهم حيث حلوا، إضافة إلى بلادهم ذاتها، تجري تبرئة قتلتهم الفعليين، وفي المقدمة منهم، قبل الدواعش وبعدها، إسرائيل التي تطارد فتية فلسطين ونساءها والرجال برصاص القتل وقيود الاعتقال في سجون لا يخرجون منها إلا جثثاً أو مرضى يحاصرهم العسف لمحاولة اغتيال هويتهم بحيث تخلص فلسطين لمحتلها الإسرائيلي، وهو الإرهابي الأعظم في التاريخ الحديث، قاتل المدن والقرى، الرجال والنساء والفتية والأطفال.
إن الضحية الأولى لتنظيم «داعش» هم العرب بعنوان فلسطين، وبعدها يمكن احتساب العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا وتونس الخ، فضلاً عن مصر التي استهدفت في كرامتها وفي سمعتها، كما في رصيدها.
ومع ذلك، فإن العرب غائبون بل مغيّبون عن دولهم، بحاضرها ومستقبلها، يتخاصمون إلى حد الحرب، ويهادنون أعداءهم إلى حد الاستسلام، ثم يواصلون تظلّمهم وتشكّيهم من الدهر الذي قسا عليهم فجعلهم بحكم الرعايا لأنظمة القهر أو ضحايا لمنظمات الإرهاب، يطاردهم العالم جميعاً في هويتهم ودينهم ولون بشرتهم وأسمائهم التي كانت ذات يوم للأنبياء والقادة العظام، الذين أسهموا في بناء الحضارة الإنسانية.
والتاريخ لا يرحم… خصوصاً لمن يُخرج نفسه منه وعليه.
ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية.