“اللامركزية” تحوم فوق عربصاليم
من يلبسن المايوه ويشربن البيرة في عربصاليم يدنّسن النهر والمكان، ومن يقتحمون مناطق سكنية مسيحية ويهتفون باسمِ الطائفة أبرياء أطهار “يعترضون على إساءة”، ومن يطالب بالدولة اللبنانية دون سواها “عميل”، ومن يعلك الحروف المطاطية المستهلكة عن ثقافة العيش المشترك هو وطني! كاس الوطن!
فلننطلق من المثل القائل: ربّ ضارة نافعة. فما حصل في عربصاليم جعلنا نكتشف نهراً رقراقاً رائعاً. لكن، أن يقال أن من يسبحون بالمايوهات في هذا النهر الجنوبي يدنسون “الأرض المقدسة” ومن يشربون البيرة يبتعدون عن “العفة” ويمارسون “المنكرات” فهذا يجعلنا نسأل: هل نعيش في لبنان أو في “لبنانات”؟
“إستنجد” كثيرون، ممن راق لهم هذا المنع، بقرار المفوض السامي “دانتز” حامل الرقم 99 تاريخ 5 أيار 1941 الذي يُحظر على النساء لبس “الشورت” في جميع الأراضي الواقعة تحت الإنتداب “الفرنساوي” في كل مكان يصل إليه نظر الجمهور، على أن يكون لباس الإستحمام للنساء ساتراً مجمل الصدر من النحر حتى الساقين. هذا كان إيام الإنتداب. فهل لبنان يعيش اليوم انتداباً آخر؟
يبدو أن إبن عربصاليم الشيخ زيد فرحات، إمام برج حمود، منفتح تجاه ارتداء الناس ما يحلو لهم شرط المحافظة على النظام والقانون والتقاليد ويقول “الدين خيار وليس قراراً” لكن ثمة مسائل تستفزّ الآخرين يجب الإبتعاد عنها. ثمة مناطق لها خصوصيات يجب مراعاتها.
لكن، الصبايا اللواتي نشرن صورهنّ في نهر الخرخار من البيئة نفسها التي تريد أن تحمي خصوصياتها؟ يجيب الشيخ فرحات: “هنّ “شيعيات”، يسكنّ على بعد كيلومترات قليلة من المكان، وقد قمنَ بما قمنَ به إما عن جهل أو “بهدفٍ ما” أو “ولدنة”.
قد يكون وراء ما حصل جهل أو عبث أو ولدنة لكنه يشي، في الحالات الثلاث، باتجاه البعض نحو تكريس “الممنوع” و”المسموح” في المناطق اللبنانية، وبين بعضها البعض، بحيث يقيم، هذا البعض، قوانينه تحت مسميات التقاليد. فهل ما رأيناه في عربصاليم مجرد حادث مرّ؟ وماذا عمّن تجاوزوا القانون في لاسا ومن يصرون على طائفية معامل دير عمار والزهراني وسلعاتا وصولاً الى من رأوا في شرب الخمر والسباحة في نهر الخرخار تدنيساً؟ هل نحن نعيش عيشاً مشتركاً نظرياً من دون تطبيق فعلي؟
اللبنانيون شعب واحد. المسيحيون والمسلمون، سنّة وشيعة ودروز، يحبون بعضهم البعض، بغض النظر عن كل ما يُشاع، لكن لكثرة ما عاشوا من “أكاذيب” بات الكلام الصادق اتهاماً. وفي هذا الإطار يعلق سياسي مخضرم مدافع عن اللامركزية بالقول: بيروت إثنتان، شرقية وغربية، وبيروت الغربية اثنتان، المنطقة السنية والمنطقة الشيعية. ثمة حدود للطوائف في كل الجغرافيا اللبنانية. جبل لبنان الشمالي وكسروان وجبيل والبترون مناطق مسيحية. زغرتا لآل فرنجية. طرابلس قلعة المسلمين. عكار مسيحية – سنية. الهرمل شيعية. القاع مسيحية. زحلة مسيحية. أرز المعاصر والباروك ونبع مرشد ونبع الصفا وكفرحيم وعين وزين… مناطق تطغى عليها لهجة القاف والعمامة الدرزية والشروال والقميص الأسودان والقلنسوة البيضاء.
ثمة “خصوصيات” مناطقية كثيرة يفترض احترامها لكن ماذا عن النظام العام، ولبنان الواحد، والجغرافيا الواحدة، والقرارات العامة؟ ماذا لو أرادت ابنة النبطية شرب البيرة (مع كحول)؟ هل عليها أن تنزل الى نهر ابراهيم بدل التوجه الى نهر الخرخار؟
في كل مرة نقف فيها في ساحة الشهداء وننظر الى اليمين قليلا نرى المنطقة الشرقية وإذا نظرنا نحو اليسار نرى المنطقة الغربية، وإذا نظرنا أبعد قليلا نرى “الخندق الغميق” فهل نحيا في كانتونات؟ أحمد بيضون طرح في دراسة سوسيولوجية لواقع المجتمع اللبناني سؤالاً: هل الكانتونات الطائفية في لبنان هي الأمر الطبيعي والدولة هي الإستثناء؟ سؤالٌ يستمر مفتوحاً.
الشيعة والمسيحيون والسنة والدروز أهل وطن واحد لكن ثمة فتيات “شيعيات” يردنَ السباحة بالمايوه فماذا يعني أن يُمنع عليهن ذلك في “نهر الخرخار” ويسمح لهنّ بذلك في جونية؟
الشيخ زيد فرحات يشدد: “على أن اللامركزية غير واردة أبداً. فنحن شعب واحد في بلد واحد”. لكن، ماذا لو وصل سائحان، أنثى ورجل، الى نهر الخرخار وشربا بيرة خطأ على ضفافه؟ يجيب الشيخ: أهالي المنطقة يغضون الطرف عن ذلك ولا يتشددون مع الغرباء. في كل حال، ثمة شيعة كثيرون، والكلام للشيخ فرحات، يشربون الخمر في بيوتهم لكن الإستفزاز في الموضوع هو المرفوض. ويستطرد: لن نرضى بغير لبنان الواحد الموحد”. الإستفزاز مرفوض، لكن اللامركزية مطلوبة. رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان قال “لا إصلاح من دون لامركزية موسعة”. وصوته بدا منخفضاّ. أمس، قبل أعوام قليلة، منعت التعبئة الطالبية في “حزب الله” بث أغنيات فيروز في مجمع الجامعة اللبنانية في الحدث. هناك من وجد يومها في صوت من غنّت “إحكيلي إحكيلي عن بلدي إحكيلي، يا نسيم اللي مارق عالشجر مقابيلي، عن أهلي حكايي عن بيتي حكايي، وعن جار الطفولي حكايي طويلي” حراماً. فهل يفترض والحال هكذا مراعاة خصوصيات أصحاب هذا الموقف؟
نعود الى الخمر، إذا سلمنا جدلا أن خصوصية عربصاليم تمنع شرب الخمر جهاراً فماذا عن خصوصية منطقة الحدث المسيحية التي اضطر رئيس بلديتها قبل أعوام الى مراعاة خصوصية جارتها الضاحية، المنتفخة بالبشر، عبر إصدار قرار “منع بيع الكحول في الحدث بعد الساعة العاشرة مساء”. لماذا يفترض بمناطق إحترام خصوصيات في حين ممنوع على مناطق مراعاة خصوصيات؟
ثمة أقوياء وضعفاء في البلد، أكثر مما هناك خصوصيات وأنظمة وقوانين. في كل حال، من يطلب مراعاة الخصوصيات في مناطق يتحدى خصوصيات مناطق وجماعات أخرى. ألا تتذكرون ما حصل قبل أعوام في جامعة الأنطونية المارونية، حين تحدى طلاب شيعة، يوم عيد القديس يوسف، في التاسع عشر من آذار، كل القرارات وأقاموا صلاة الظهيرة بشكل مستفز؟ الخصوصيات تتحول، في بلد مثل لبنان، الى تحدٍّ!
هل يجب أن ننادي بتطبيق اللامركزية؟ سؤالٌ آخر مفتوح ومن زمان…
الباحث في علم الإجتماع البروفسور أنطوان مسرة يقول: “إن النظام اللبناني ونظام البلديات لامركزيين بدرجات تفوق الثمانين في المئة لكن اللامركزية في أنظمتنا غير مطبقة وبالتالي يفترض إذا أردنا أن نكون جديين في طرحنا أن ندرس: لماذا لم تطبق البنود اللامركزية في البلديات؟” يضيف: اللامركزية ليست إجراء قانونياً بحتاً بل تتطلب ثقافة لامركزية كي لا تجعلنا ننتقل من مركزية المركز الى مركزية محلية، والمركزية المحلية تكون أكثر خطورة لأن زعماء مناطقيين قد يسيطرون عليها فتتحول، إذا لم تترافق مع ثقافة، الى مركزية محلية أكثر مركزية من مركزية المركز”.
لا إصلاح من دون اللامركزية ولا لامركزية من دون ثقافة ولا ثقافة بناءة من دون سعي حثيث الى مواطنية صحيحة تحفظ كل الخصوصيات… هي إذا مسألة دائرية تطغى عليها، في بلد مثل لبناننا، الشعارات الفضفاضة والمواقف المسبقة.
في كل حال، فليكن واضحاً، بالقانون، أين تسبح المرأة وأين يُسمح بشرب الخمر، بالنظام بلا تهديد أو وعيد ونعوت بتخطي المحرمات وتدنيس الأرض، وما هو مسموح هنا وممنوع هناك.
نعود الى عربصاليم، لنسأل عما يُحكى عن جماعات “غريبة عجيبة” تُمسك الأرض و”القرار”؟ ماذا عن وجود “حزب الأمير” الشيعي مثلا الذي تسبب بمقتل عماد حسن في عربصاليم قبل عامين؟ يجيب الشيخ فرحات: كان هناك عضو واحد في هذا الحزب من عربصاليم لكن، بعد الحادث، كوفح وطُرد كل أعضائه خارج البلدة وانتهى الأمر عند هذا الحد. يضيف: “حزب الله” لم يتدخل بدوره بحادث “نهر الخرخار” بل الناس هم من سارعوا الى الدفاع عن خصوصيات البلدة.
الناس هم دائما من يكونون في الصفوف الأمامية، في المواجهة، ووراءهم يتلطى كثيرون. يبقى أن اللبنانيين، لمن يهمه الأمر، يحبون بعضهم. اللبنانيون يريدون العيش المشترك لكن هذا العيش الذي يريدونه ليس ذاك الذي يتحدث عنه الزعماء منذ سبعين عاماً بل العيش الذي يسقطون فيه من دون التفكير فيه. اللبنانيون الذين “نبت” في اليومين الماضيين “الشعر” على السنتهم وهم يدافعون أو يهاجمون قرار عربصاليم يعرفون أن “الحال” ليست بألفِ حال صحية.