يُظهر إحصاء سريع لمواقف الكتل النيابية التي أيدّت، أو أوحت بتأييد، مبادرة الرئيس سعد الحريري الرئاسية ان الفراغ فَقَدَ أكثريته وأن المبادرة تمكّنت من إيجاد الأكثرية المطلوبة لانتخاب الرئيس العتيد في الدورة الثانية على الأقّل، أي بالنصف زائداً واحداً (65 صوتاً). لكن استمرار نواب كتلة «الوفاء للمقاومة» و«التغيير والإصلاح» في تعطيل نصاب جلسات الدورة الأولى (أكثرية الثلثين) يحول دون ولادة رئيس للجمهورية وبالتالي يبقي الفراغ سيداً للقصر.
والمعلوم أن تعطيل النصاب تمّ بفعل مقاطعة هؤلاء النواب لـ 34 جلسة نيابية مخصّصة للانتخاب، وهي عبارة عن «تخلّف وظيفي» تعاقب عليه الأنظمة الداخلية لكثير من مجالس النواب في العالم، إما بحسم نسبة معينة من رواتب النواب أو بإسقاط نيابتهم أو باجراءات أخرى. ذلك أن معظم برلمانات العالم تميّز بين «الحق الفردي» وبين «الحق الوظيفي» وتتخّذ إجراءات لمنع النواب من التخلّف عن واجباتهم البديهية وأهمّها حضور الجلسات، تجنباً للوقوع في ما يسمّى «ديكتاتورية الأقلية».
ولعلَّ المادة 65 من الدستور اللبناني خير وسيلة لمواجهة هذه «الديكتاتورية« كون هذه المادّة «روعة في المخيلة الدستورية على المستوى المقارن»، كما يقول عضو المجلس الدستوري وكبير الخبراء في الدستور الدكتور انطوان مسرّة، لأنها تتجنّب في آن في ميزان متعدّد كلبنان «طغيان الأكثرية وكذلك طغيان الأقلية من خلال الأكثرية الموصوفة (أكثرية الثلثين) في 14 موضوعاً محدّداً حصراً»، كما ورد في كتاب جديد سيصدر له قريباً تحت عنوان «النظرية الحقوقية في الأنظمة البرلمانية التعدّدية».
لكن واقع الحال أن «حزب الله» ومن معه من الكتل النيابية التي استحدثت سجالاً جديداً منذ العام 2005 حول طبيعة النظام اللبناني تحت عنوان أنه «نظام توافقي وليس تنافسياً« (أو أكثرياً) أطاحت هي نفسها المواد الدستورية التي تمنع «طغيان الأكثرية والأقلية» معاً، مثل المادة 65 التي تحتّم الحصول على أكثرية الثلثين في «مواضيع أساسية» كقرار الحرب والسلم.
كما انقلبت هذه الكتل على مواد دستورية أخرى تلزم بتحوّل مجلس النواب إلى «هيئة انتخابية» لانتخاب رئيس للجمهورية إثر شغور الموقع، فلجأت إلى تعطيل النصاب والدستور معاً للحؤول دون انتخاب الرئيس، في خطوة تقطع الطريق على مبدأ ديموقراطي أساسي معتمد في لبنان وفي كل الدول الديموقراطية، أي تداول السلطة، لتضع النظام السياسي أمام بدعة تجنّبها الدستور عنوانها «ديكتاتورية» أو «تعسّف» الأقلية.
وإذا كانت «الديموقراطية التوافقية» كما يسميها «حزب الله» وحلفاؤه خطأ (لأن الديموقراطية واحدة في كل العالم كما يقول الدكتور مسرّة مفضلاً مصطلح «الأنظمة البرلمانية التعددية») تفترض وجود ركائز أربع، كما يقول مؤسس هذه النظرية آرند ليبهارت، وهي «الفيتو» المتبادل، والنسبية في التمثيل، وإدارة ذاتية في بعض الشؤون (الأحوال الشخصية) والحكومات الائتلافية، فإن الحزب وحلفاءه يرتكبون مجموعة من المغالطات في مقاربة هذه «الركائز»، أبرزها:
1 أن «الفيتو» المتبادل يفترض المساواة في استخدامه، أي ألاّ يكون من بين القوى التي تجيز لنفسها استخدام حق «الفيتو» قوة مسلّحة وخارجة عن الدولة.
2 أن الائتلاف الحكومي في لبنان هو ائتلاف «طوائف» وليس ائتلافاً بين قوى سياسية، وأن أي أكثرية تفترض أن تكون مكوّنة من كل الطوائف لأن كل الطوائف في لبنان «أقليات» كما يقول ميشال شيحا، ولا يمكن لمذهب وحده أن يشكّل أكثرية.
3 أن الركائز الأربع المشار إليها يفترض أن تقترن باعتماد سياسة «الحياد»، كما هو حال الدول التي تعتمد هذه الركائز مثل سويسرا والنمسا وفنلندا، حيث تشارك في صنع القرار في السلطة التنفيذية لهذه الدول جميع الطوائف والفئات بحيث لا تطغى فئة على فئة ولا طائفة على أخرى، وتكون القرارات غير منحازة لأي فريق وبالتالي لأي جهة خارجية تدعم هذا الفريق أو ذاك. أما في لبنان فإن «حزب الله» يرفض سياسة الحياد جملة وتفصيلاً، لا بل يزجّ الحكومات اللبنانية المتعاقبة في مواجهة تداعيات لسياسات أو حروب يخوضها بمعزل عن إرادتها أو عن التصويت، حتى بعد إقرار «إعلان بعبدا».
معنى ذلك أن «حزب الله» الذي طالما رفض التقيّد بقواعد النظام الأكثري (أكثرية وأقلية) المنصوص عنها في الدستور، لاجئاً على الدوام إلى طاولات الحوار المتعاقبة بحثاً عن «التوافق» بدلاً من التصويت، يرفض هو نفسه التقيّد بقواعد النظام «التوافقي» المنصوص عنها في الدستور أيضاً، ما يعني رفضه للدستور نفسه جملة وتفصيلاً، ولأي قاعدة تنظم علاقته ببقية اللبنانيين.