في تلك الليلة أدرَكتُ جيّداً معنى المهمّة الصعبة التي كان يتولّاها المطران أندره حداد، راعي أبرشية زحلة للروم الكاثوليك يومها.
عند الساعة العاشرة من مساء 11 تمّوز 1986، طرَق بابَ منزلي في زحلة عناصرُ من المخابرات السورية جاؤوا لاصطحابي إلى عنجر، حيث جرى اعتقالي لنحو الشهر ونصف الشهر.
طلبتُ الدخول إلى غرفتي لأبدّل ملابسي وسط خَوفٍ انتابَ والدتي وأخوتي. ومِن غرفتي اتّصلتُ بالمطران حدّاد عبر هاتفِه الخاص لأخبرَه بصوتٍ خافِت بما حصَل، فعَلا صوته القويّ قائلاً: «أعطِني هؤلاء الـ…».
وفي هذه اللحظة، إقتحَم العناصر غرفتي وهم يَصرخون ويتوعَّدون، وأقفَلوا سمّاعة الهاتف بغضب، لتبدأ عندها الرحلة الصعبة.
وفي الليلة نفسِها، ارتدى المطران حدّاد ثيابه وانطلقَ يبحث عنّي في مراكز المخابرات السورية من دون جدوى. اتّصَل بغازي كنعان ولم يوفَّق به ليلتها. لكن، في اليوم التالي عاوَد جهودَه وتواصَل مع غازي كنعان أكثر من مرّة.
إستمرَّ المطران حداد في مطالبته لكنعان بإطلاق سراحي من دون أن يُوفَّق. رفضَ كنعان آخذاً عليَّ نشاطي الإعلامي والسياسي المُعادي.
بدا مندهِشاً من تمسّكِ كنعان باحتجازي، كون المآخذ عليّ سياسية فقط، لكنّه لم يتعَب بل استمرَّ في إلحاحه.
وبعد مرور ثلاثة أسابيع أو ربّما أكثر بقليل، ارتأى المطران أن يزور كنعان مساءً في مكتبه حيث من المفترض أن يكون مزاجه أفضل، ما يُساعد على تليين موقفِه، وقصَدَه برفقة إيلي الفرزلي الذي كان قريباً منه، إضافةً الى عددٍ صغير من المعاونين. خلال تلك الجلسة كرَّر المطران حداد طلبَه بإطلاق سراحي.
لم يُعلّق كنعان بل نظرَ إلى المطران قائلاً له: «أيقونتك حِلوة سيّدنا». سكَتَ حداد ونظرَ إلى الفرزلي الذي غمَزه، بمعنى إهداء الأيقونة لكنعان. ليس من السهل على أسقفٍ أن يُهديَ أحداً أيقونته المقدّسة. ولكن بعد دقائق من التفكير اختار أندره حداد أن يُقدّم أيقونتَه علَّ ذلك يساعده في استعادة حرّيتي.
نزَع الأيقونة عن صدره وقدّمها لغازي كنعان، وهو يُكرّر طلبَه «أريد جوني ليعود إلى منزله».
لبِسَ كنعان الأيقونة وبقيَت معه ولم يُرجِعها أبداً. وبعد مغادرة الوفدِ مكتبَ كنعان في عنجر، عاتبَه بعض الذين رافقوه كيف يتخلّى عن أيقونته ويُقدّمها إلى ضابط سوري. وكان جوابه: «الأيقونة هي لإنقاذ البشر، وأنا اليوم أنقذتُ نفساً من خلالها».
مطران الروم الكاثوليك الذي قدَّم أيقونته للمساعدة في إطلاق سراحي، أنا ابن الطائفة المارونية، لم تكن هذه تضحيتَه الوحيدة. فعشراتُ، لا بل مئاتُ الشبّان الذين لوحِقوا واعتُقِلوا يومَها، ركضَ خلفَهم المطران حداد من دون معرفة طائفتهم أو اتّجاههم السياسي وعملَ على إطلاق سراحهم وسط ظروفٍ قاسية ومَصاعب طاوَلت شخصَه المحِبّ أحياناً كثيرة.
يومَها لم أكُن أعي جيّداً حقيقة وأبعادَ الدور الصعب الذي أناط نفسَه به. كان رجلاً شجاعاً وقائداً فعلياً لا يَهاب المصاعبَ واتّخاذَ المواقف الجريئة. كنّا نتجادل أحياناً كثيرة في السياسة، أنا المأخوذ يومَها بالحماسة الوطنية الصافية والعناوين المثيرة، وهو الذي كان يَزين المسائل بأبعادِها ومخاطرها، وهدفُه الثابت انتشال زحلة وأهلِها من قلب العاصفة. فالبقاء والوجود هو أولوية تعلو فوق أيّ أولوية أخرى.
كان النقاش يحتدّ أحياناً ليعود ويتّصل بي بعد قليل ويدعوني لأشاركه طعام العشاء إلى مائدة المطرانية.
رحلَ الأسقف المحبّ، الرَجلُ الرَجل، بعدما ساهمَ في إنقاذ زحلة يوم التهَمت الحرب الكثيرَ مِن المناطق اللبنانية.