الثنائي الشيعي ينتظر هادئاً إجراء انتخابات بلدية يَعرف نتائجها مسبقاً. النائب وليد جنبلاط «يدَوْزن» اللعبة في البلدات المسيحية، ولكن لا مشكلة عنده درزيّاً. وأمّا الرئيس سعد الحريري فمرتاح إجمالاً: «عالج» بيروت ونسَّق الأمور مع الخصوم داخل الطائفة. وهكذا، فالمسيحيون وحدهم يستعدّون لـ«داحس والغبراء» البلدية. وتقليدياً، ولا سيّما بعد «اتفاق الطائف»، تحوّلت الانتخابات البلدية والنيابية، وحتى الرئاسية، تنازُعاً بين المسيحيين في الدرجة الأولى، فيما الآخرون يعرفون إجمالاً مَن هم زعماؤهم!
تتعاطى القوى السياسية مع الانتخابات البلدية في اعتبارها «بارومتر». فهي ستُحدّد الأحجام والمقاييس داخل كلّ طائفة، وعلى أساسها سيَعرف كلّ طرف أيّ قانون للانتخابات النيابية هو الأفضل له، كذلك سيبعث برسالة إلى القوى الإقليمية والدولية المعنية بلبنان في هذا الشأن، ليحجز موقعاً مناسباً له في أيّ تسوية مقبلة، أو في تركيبة النظام المنتظر بعد التسوية.
مثلاً، إذا خسرَ جنبلاط في القرى والبلدات المسيحية فإنّ زعامتَه الدرزية لا تتأثّر. وكذلك يمكن القول عن الحريري الذي لا تتأثّر شعبيته السنّية إذا خسرَ بعض المسيحيين بلدياً، علماً أنّه رتّبَ الوضع في بيروت، وهو «يمون» في زحلة والكورة ومناطق مسيحية أخرى.
أمّا القادة المسيحيون فتتأثّر شعبياتهم بمجريات الانتخابات البلدية وتركيباتها وتحالفاتها ونتائجها. لذلك، ترتدي هذه الانتخابات أهمّية بالنسبة إلى هؤلاء، خصوصاً في زمن التسويات الكبرى التي يمكن أن تفرض نفسَها، حيث الجميع يريدون أن يكونوا أقوياء على الطاولة.
وفي الأشهر السابقة للانتخابات البلدية، حصل حدثان سياسيان لهما دور مفصلي في تحديد موازين القوى داخل الطوائف:
– عودة الحريري إلى لبنان، حيث باشرَ إعادة ترتيب تيار «المستقبل» والساحة السنّية.
– لقاء معراب الذي جمعَ العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع. وخلاله تمّ تبنّي ترشيح عون لرئاسة الجمهورية والتوافق على عناوين سياسية
والتأسيس لتحالف ثنائي.
الحدث الأوّل نجح في «شدْشَدة» مفاصل الطائفة السنّية. والثاني نجحَ، وفقَ أركانه، بإقامة تحالف بين القوّتين المسيحيتين الأكبر حجماً يحظى بدعم 86 في المئة من المسيحيين.
النظر سريعاً إلى المشهد يوحي بأنّ كلّ طائفة اختارت قيادتها. وإذا كان تحالف عون – جعجع يحظى فعلاً بمباركة شعبية كاسحة في هذا الحجم، فإنّه بذلك سيكون قد أصبح موازياً للتحالف الشيعي. وسيكون المسيحيون قد استطاعوا، للمرّة الأولى، أن يوحِّدوا مرجعية قرارهم.
فتحالف حركة «أمل» «حزب الله» ربّما لا يحظى بدعم أكثر من 86 في المئة من الشيعة. أمّا جنبلاط فهو بالتأكيد لا يحصل على دعم يفوق هذه النسبة من بين الدروز، ولا للحريري هذه النسبة داخل الطائفة السنّية.
وعلى رغم أنّ قوى سياسية مسيحية تَعتبر أنّ هذا الرقم مضخَّم، فإنّ من مصلحة عون وجعجع أن يحافظا على رصيد التحالف، سواء كان الرقم واقعياً أو مضخّماً، للتأسيس عليه في أيّ استحقاق مقبِل، سواء أكان الانتخابات النيابية أو سواه.
والمؤكّد أنّ القطبَين المسيحيَين يطمحان إلى أن يكون الامتحان البلدي إثباتاً لامتلاكهما هذا الرصيد. لكنّ باحثين في المجال الانتخابي يعتقدون أنّ اتّخاذ الانتخابات البلدية مقياساً للشعبية الحزبية ينطوي على مغامرة. فالمعارك البلدية غالباً ما تتحكّم فيها الاعتبارات والمصالح العائلية الضيّقة، وهي لا تحمل عناوين سياسية كما هو حال الانتخابات النيابية.
ويبدو أنّ «الثنائي المسيحي» تحسَّس احتمال التعرّض لمفاجأة. ولذلك هو تركَ اللعبة الانتخابية تدور وفقاً للظروف والمعطيات في كلّ مدينة وبلدة وقرية. وإجمالاً، لم يلجأ تحالف عون و«القوات» إلى مواجهة الاعتبارات المحلية التي تفرض نفسَها في أيّ دائرة. وهذا الخيار صائب سياسياً. وباستثناء زحلة وأماكن أخرى محدودة، بقيَت الاعتبارات المحلّية لا الحزبية هي الأساس.
وفي اعتقاد المتابعين أنّ المعارك البلدية التي تتركّز في المناطق المسيحية ربّما تكون عنواناً سيرفعه خصوم عون وجعجع لإسقاط مقولة تمثيلهما الكاسح للمسيحيين، استناداً إلى العوامل الآتية:
1 – إنّ محازبي «التيار» و«القوات» والأنصار أنفسهم، في مناطق مسيحية معينة، ولا سيّما في زغرتا والمتن وكسروان وجبيل وزحلة، ربّما يصوِّتون خلافاً لرغبات القيادات الحزبية. ففي هذه المناطق قوى حزبية أخرى، ولا سيّما الكتائب، وقوى سياسية وعائلية فاعلة ويَصعب تجاوزها.
2 – إنّ مرشّحي «التيار» و«القوات» يتواجهان بلدياً في بعض المناطق، بدل التحالف.
3 – في داخل كلّ مِن الحزبين تجاذبات محلية بناءً على اعتبارات عائلية، في العديد من البلدات. فالعونيّون موجودون في هذه اللائحة وتلك، و«القواتيون» كذلك.
4 – إنّ الحساسيات التي أثارَها إعلان معراب والحديث عن 86 في المئة ربّما استفزّت قوى سياسية مسيحية حليفة للرابية أو معراب، ودفعَت بعضها إلى أن «يتحسّس رأسَه». وبعض هذه القوى السياسية أو العائلية بادر إلى خطوات جريئة في اتجاه الخصوم التاريخيين، عملاً بمقولة «أنا وإبن عمّي على الغريب».
لذلك، ستكون الانتخابات البلدية ذاتَ مغزى بالنسبة إلى الحزبَين المسيحيين الأكبر حجماً، أيّاً يكن النهج الذي سيتبعانِه، سواء قرّرا مواجهة القوى الأخرى أو مهادنتَها.
فاللوائح التي ستفوز في هذه الانتخابات ستكون خليطاً من «أبناء الأحزاب» و»أبناء العائلات» وأنصار القوى التقليدية التي تمتلك رصيداً قوياً في مجالات الإنماء والخدمات. وبالتأكيد لن يكون لتحالف عون – جعجع المقدار التمثيلي الذي تَحدّثا عنه غداة لقاء معراب.
وتقتضي الحكمة أن لا يرفع الرَجلان شعارَ التمثيل المسيحي خلال الانتخابات البلدية، لأنه سيؤدي إلى نتيجة معاكسة. ففي الانتخابات النيابية يمكن الركون إلى تحالف سياسي ونتائج طَموحة. وأمّا في البلديات فالنتائج أدنى من ذلك، لأنّ للمعركة طبيعتها المغايرة.
وبناءً على هذا المنطق، يقول بعض المطّلعين: إذاً، واقعياً وبعيداً عن شعارات الديموقراطية، كان الأفضل لتحالف عون وجعجع عدم إجراء الانتخابات البلدية وإبقاء الجميع عند الصورة التي تُظهِر أنّهما يمثّلان معاً شريحة التمثيل الكاسحة من المسيحيين.
لكنّ آخرين، في المقابل، مقتنعون بالمنطق العوني – القواتي، ويعتقدون أنّ نتائج الانتخابات البلدية لن تُفسِد مقولة أنّ الحزبين يمثّلان هذه الغالبية من المسيحيين. فاللوائح كلّها «مفخَّخة» بالحزبيين والمناصرين. ويضيف هؤلاء: إنتظِروا حتى تنتهي المعارك الانتخابية. فالكثيرون من الذين سيفوزون فيها سيكشفون مدى ارتباطهم بالحزبين، وسيتهافتون على الرابية ومعراب للمباركة.
ولكن، على رغم ذلك، تبقى محطة البلديات اختباراً يمكن لـ«الثنائي المسيحي» الإفادة منه لإدراك حقيقة التوازنات السياسية في البيئة المسيحية وطريقة الاستعداد للاستحقاق المقبل. فما يراد من هذا التحالف يتجاوز الاعتبارات الانتخابية التفصيلية، وهو تعبيرٌ عن رغبة دولية، وفاتيكانية تحديداً، لوقفِ التجاذبات السياسية التي كلّفت المسيحيين كثيراً.
في أيّ حال، ما يُميّز الثنائية المسيحية عن الثنائية الشيعية هو أنّها، حتى الآن، «شِبه تحالف سياسي» ولكنّها لم تبلغ المشروع السياسي الموحّد، كما هي حال «أمل» و«حزب الله».
وثمَّة مَن يسأل: هل كان يجب خلق ثنائي مسيحي يوازي الثنائي الشيعي أم العكس؟ وفي عبارة أكثر وضوحاً، هل كان مطلوباً استبدال واقع التعدّد المسيحي ليلتحق بنمطية الثنائي أو الزعيم الواحد عند الشيعة والسنّة والدروز، أم المطلوب تعميم واقع التعدّد المسيحي على الآخرين؟
ربّما يدفع المسيحيون ثمن التعدُّد «غير الواعي». وبالتأكيد هم دفعوا مراراً ثمن محاولات التوحيد القسرية «غير الواعية». وسيكون مثالياً أن يَعوا كيف يتعدَّدون ويوحّدون الهدف في آنٍ معاً.
هل المطلوب استبدال التعدُّد المسيحي لمصلحة الثنائي أو الزعيم الواحد عند الشيعة والسنّة والدروز أم المطلوب تعميم التعدّد
على الجميع؟