قطعاً لم يكن قط تنفيذ أحكام الإعدام التي جرت في السعودية في الأسبوع الأخير من عام 2015 بحق 47 متهماً جرت إدانتهم بكافة أشكال ممارسة الإرهاب على أراضي المملكة هي التي احدثت الوقيعة المدوية بين كل من الرياض وطهران. دعك والأدلة القاطعة بالتورط المباشر بممارسة الإثارة والتحريض وإعداد الخطط وتنظيم الشبكات الإرهابية وتزويدها بالمال والسلاح وتحديد الأهداف لها، فإنه من الضروري الإقرار أن تراكماً نوعياً واسعاً ومتواصلاً تتطلب اختماره أكثر من ثلاثة عقود زمنية ليفجر العلاقات بين البلدين. إن خلافاً حاداً بين استراتيجيتين متعارضتين هو الذي دفع الأمور إلى التدهور الراهن بين النظامين.
فلا يجوز أن يغرب عن بالنا عن ذاكرتنا التاريخية، ما كان من تداعيات عميقة للحرب الإيرانية العراقية (1980-1988) وما تلاها من حروب كانت الساحة العراقية وما زالت مسرحاً لها. فالنظام الإيراني الملالي الثيوقراطي (حكم رجال الدين) والذي دشن عام 1979 الإسلام السياسي كنظام حكم في الشرق الأوسط والداعي على خلفية ولاية الفقيه إلى قلب الأنظمة السياسية بالعنف وبالقوة المسلحة كان لا بد له أن يصطدم كمشروع سياسي بالنظم القائمة أياً كانت طبيعتها. عاملان رئيسيان قد أثارا شهية النظام الإيراني في الاندفاع نحن المتوسط، الأول هو تراجع المشروع القومي العربي الذي ترافق مع أزمة الأنظمة العسكرية في منطقتنا، والثاني سقوط المنظومة الاشتراكية، وقد عزز اندفاع طهران هذا وتعاظم طموحاتها سقوط نظام صدام حسين (2003) وتحالف النظام الأسدي معها وصولاً إلى لبنان حيث اعتلى النظام الإيراني منصة القضية الفلسطينية عندما جرى إقصاء المقاومة الوطنية اللبنانية لمصلحة حزب الله. فالطابع المذهبي والاحتكار الفئوي للطروحات الإيرانية راح يؤسس باكراً للصراع المذهبي في المنطقة العربية. لا بل راح المشروع الإيراني يتوسع ليطاول بلداناً عربية أخرى، فبعد الانسحاب الأميركي من العراق وتحوّله إلى محمية إيرانية، أصبح له نفوذ جدي في فسلطين (غزة)، وبدت ملامحه في الكويت والبحرين لتحط رحاله في اليمن حيث اشتعلت الحرب.
كل ذلك والنظام الإيراني يعمل جاهداً على تطوير نشاط مفاعلاته النووية ليكرس نفسه كقوة إقليمية كبيرة قادرة على فرض نفوذها بعد انحسار الربيع العربي واندلاع الثورة السورية (2011). ولم يتمكن النظام الإيراني قط من الاستفادة من فرصة عقد الاتفاق النووي (2015) ورفع العقوبات الاقتصادية والمالية عنه وبالتالي لتوفر 130 مليار دولار لدى السلطة، لتوظيفها في رفع المستوى المعيشي للفئات الشعبية وفي مشاريع التنمية. فعسكرة النظام وسيطرة الحرس الثوري على ادارات الدولة ومرافقها وانفاق الأموال لتصديرها الى الخارج سواء لدعم النظام الاسدي بالمال والسلاح الروسي أو لتمويل الميليشيات الموالية للأجندة الايرانية (حزب الله، فيلق القدس، الحشد الشعبي العراقي، أنصار الله الحوثيين، حماس) كانت له الغلبة الفعلية في تقرير اي اتجاه سيجري انفاق المبالغ المتوفرة، ذلك ان منطق القوة والسيطرة واثارة الازمات والتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية لا بل التورط في اي نزاع سياسي او مسلح تبعاً لمزاعم الاتجاه المتمثل بالحرس الثوري، هو الذي استطاع كسب معركة الاتفاق النووي مع الغرب (5+1). والحق انه ما ان بدأ مسار تخفيف العقوبات بحق طهران في وضعها تدريجياً حيز التنفيذ حتى بدأ النظام الايراني باجراء تجاوب مثيرة للقلق على الصواريخ الباليستية المتطورة المتوسطة (القادرة على مطاولة الدول العربية وسواها) واللجوء الى سلسلة استفزازات تستهدف قطع البحرية الاميركية والفرنسية المرابطة في الخليج التي تنطلق منها طائرات التحالف الأممي التي تُغِير على مواقع داعش التي تقود معركة ضارية في العراق بمواجهة الجيش العراقي وقوات «البشمركية» من الرمادي الى الموصل وسواها. هذا هو المشهد الايراني كما هو في دفع الأوضاع الى طريق اللاعودة واحتمال اندلاع الحرب.
ان النظام السعودي الذي ينبري ليأخذ على عاتقه المسؤولية التاريخية في الدفاع على المصالح الوطنية والقومية للدول العربية، كان يراقب بقلق بالغ السلوك العدواني للنظام الملالي الايراني في المنطقة العربية وتطلعاته وجمومه لتحويلها الى دول تابعة لمشروعه التوسعي، فمحاولاته المتواصلة للامساك بالورقة الفلسطينية بديلاً عن اصحاب العلاقة الفلسطينيون انفسهم العرب شركاؤهم في النزاع (ابتداء بغزة وانتهاء بجنوبي لبنان)، وكذلك بتدخله السافر عن طريق ارسال مقاتلي الحرس الثوري الايراني وحلفائه من ميليشيات حزب الله الى فيلق القدس ولواء ابو الفضل العباس وسائر الميليشيات الشيعية الى الساحة السورية للدفاع عن النظام الاسدي ساعياً الى حسم عسكري بمواجهة سائر قوى المعارضة هو الذي دفع العلاقات مع الرياض وسواها من الدول العربية الى التأزم الشديد. فطهران التي تزود النظام الاسدي بالمال والسلاح المتطور، وبالعسكر الفئوي المذهبي الشيعي، بذريعة قتال «داعش»، ترفض بعناد اي تسوية سياسية مشرفة في سوريا. لا بل هو الذي بسط هيمنته على حكومات بغداد المتعاقبة في حربها مع داعش، وهذا النظام نفسه هو الذي يلعب دوراً خطيراً في تعطيل انتخابات الرئاسة الأولى في لبنان عن طريق حزب الله اللبناني وحلفائه بغية فرض رئيس من صناعة ايرانية او تكريس الفراغ وتعطيل المؤسسات. لا بل هذا النظام هو الذي يزعزع الأمن والاستقرار في الكويت والبحرين وسائر دول الخليج العربي، ليطاول في محاولاته المنطقة الشرقية من المملكة السعودية عن طريق تشكيل خلايا ارهابية ليست اقل خطراً على السعودية والمنطقة من «داعش» و «القاعدة» وسواها. بل اكثر من ذلك عندما كان هو وراء الانقلاب الحوثي في اليمن في محاولة خطيرة للالتفاف على المملكة من جهة الجنوب. فالرياض التزمت لفترة طويلة بسياسة ضبط النفس حيال هذه السياسة العدوانية. إلا أن التمادي في السلوكيات العدوانية والتدخل السافر في شؤونها، بل محاولاته إثارة الحروب والتورط فيها في العراق وسوريا واليمن أكرهت الرياض على اضطرارها للمواجهة كما نشهد في «عاصفة الحزم».
ولعل أخطر ما تسعى طهران لتكريسه هو اعتبار نفسها المسؤول الوحيد عن جميع المسلمين الشيعة في المنطقة العربية والعالمَين العربي والإسلامي، فتراها بذلك تقتبس السلوك نفسه الذي تدعيه حكومات تل أبيب حيال يهود العالم.
إن الشيخ نمر النمر وثلاثة آخرون شيعة، وهم الذين تورطوا في مجمل مراحل ممارسة الإرهاب داخل المملكة هم في نهاية الأمر مواطنون سعوديون مدانون أمام المحاكم السعودية، شأنهم في ذلك شأن المدانين الباقين من أهل السنّة. فهذا شأن سعودي. أما أن يصل السلوك العدواني لحد إحراق السفارة السعودية في طهران والاعتداء على قنصليتها في «مشهد» فهو اختباراً إيراني لمدى صلابة الرياض ومدى استعدادها على التراجع. فقد أخطأ النظام الملالي الحسابات في سوريا عندما أصرت الرياض بثبات مثير للإعجاب في دفع مطالب المعارضة السورية للوصول إلى تسوية سياسية لا يمكن تنفيذها مع بقاء الأسد في السلطة سواء في المرحلة الانتقالية أو في مراحلها النهائية. فقد مني نظام طهران بهزيمة نكراء في مشروع سحق المعارضة ما دفعه للقبول بتدخّل القوات الروسية حيث تحاول موسكو مع قوات النظام تحقيق مكاسب ميدانية على أرض المعركة وصولاً إلى جنيف3 حول الأزمة السورية. كما أن طهران قد أخطأت الحسابات في إمكانية السيطرة على باب المندب عن طريق أدواتها الحوثية صالح. فلدى المملكة القدرة السياسية أولاً والعسكرية ثانياً على التصدي ووقف الزحف الإيراني، وتماسك أوضاعها الداخلية ما بدد أحلام طهران. فالحلف الإسلامي (35 دولة) بمواجهة داعش يجب أن تحسب له الحسابات، خصوصاً بعد انضمام تركيا، الدولة الوازنة عسكرياً، إليه.
إن المعركة الدائرة الآن، بعد حدوث القطيعة بين الرياض وطهران، هي معركة العرب الكبرى في مواجهة الأطماع الإيرانية ابتداء بالتراب السعودي وصولاً إلى سائر الدول العربية المعتدلة. إننا لا نسعى إلى الحرب، لكن علينا الاستعداد لها، فقد أصبحت والحالة هذه تدق أبواب المنطقة، فعلينا الآن دعوة طهران للتعقّل قبل إفلات الأوضاع من السيطرة.