IMLebanon

هل أحرَق الأميركيون مبادرة هولاند؟

مبادرات على خطين: الرئيس نبيه برّي والفرنسيون. إذاً، هناك شيء يجري تحضيره. ولكن، ليس واضحاً إذا كانت مبادرتا برّي والرئيس فرانسوا هولاند تتكاملان لإنجاز التسوية أو تتناقضان للتعطيل. ولكن، الأرجح أنّ التزامن بين المبادرتين ليس صدفة.

أصرّ الرئيس فرنسوا هولاند على زيارة بيروت، قبل أسابيع، على رغم أنّ الجميع كان يمتلك انطباعاً بعدم وجود أيّ عنصر جديد يوحي بالتسوية في الملف الرئاسي. لكنّ المتابعين أكدوا أنّ الرجل لا يتحرّك عبثاً بل بناء على معطيات.

عاد هولاند إلى بلاده «برائحة التسوية». وبعد أيام، استقبل البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي. يومذاك، خرج إلى العلن موقف البطريرك المعترض على طرح «رئيس السنتين»، والرافض أن يكون هو نفسه «مكاريوس» اللبناني. فالبطريرك بطريرك وليس مرشحاً للرئاسة.

وبعد ذلك، جاء الرئيس سعد الحريري إلى باريس مجدداً، علماً أنه يتبنّى مرشحاً معلناً هو النائب سليمان فرنجية، وانّ هذا الترشيح حظيَ في حينه بدعم علني من هولاند.

المعلومات التي ترشح من أجواء باريس مفادها أنّ هولاند رفع في هذه المرحلة من وتيرة اندفاعه لتسوية رئاسية في لبنان، اقتناعاً منه بأنّ الظروف باتت ناضجة أكثر من أي وقت مضى، وأنّ هذا الحراك سيحظى بدعم أميركي، للمرة الأولى.

ففي المحاولات السابقة، حاول هولاند أن يضطلع بدور «الشريك المضارب» للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، من خلال اتخاذ موقف مناهض للمحور الإيراني وللرئيس بشار الأسد في سوريا، ومُساير للسعودية.

وعندما وقّع الإيرانيون الاتفاق النووي مع القوى الكبرى، حاول الفرنسيون أن يتداركوا بعض المكاسب، ومنها إنهاء الشغور الرئاسي في لبنان، المكان الوحيد الباقي لهم في المنطقة. وعوقِبوا بعدم التجاوب معهم. ولذلك فشلت كل المحاولات لانتخاب رئيس.

اليوم، ومع نهاية عهد الرئيس باراك أوباما، يرغب الأميركيون في وضع ضوابط للسياسة التوسعية الإيرانية في المنطقة، بحيث لا تستغلّ طهران الوقت الأميركي الميت لتوسيع النفوذ. وفي هذا السياق، جاءت القرارات الأميركية بتجفيف تمويل «حزب الله».

كما أنّ واشنطن لم تفرج تماماً عن الأرصدة الإيرانية المجمدة، رغبة في عدم السماح لطهران بإطلاق جماح سيطرتها الإقليمية. لكنّ واشنطن لم تمارس حتى اليوم ضغوطاً حقيقية على إيران من أجل إنهاء الفراغ الرئاسي في لبنان، لأنّ طهران كانت تطلب دائماً أثماناً غالية مقابل هذا الهدف.

لذلك، تضيف المعلومات، وجدت باريس أنه من المناسب استغلال الوقت الأميركي الميت، في نهاية ولاية أوباما، للحصول من واشنطن على مباركة لمبادرتها الرئاسية في لبنان. وعلى هذا الأساس، يشعر الفرنسيون بأنّ هناك حظوظاً لنجاح حراكهم هذه المرّة.

ووفق المعلومات، تبدأ الخطوط العريضة للمبادرة الفرنسية بانتخاب رئيس للجمهورية أولاً، لولاية كاملة، ومن خارج الأسماء الصدامية المتداولة. وثمّة كلام على تسميات مرجّحة، وتحظى بقبول القوى اللبنانية جميعاً.

وبعد ذلك، يتم تأليف حكومة جديدة يتمثّل فيها الجميع وتشكّل تعويضاً للطامحين إلى بلوغ بعبدا، وإقرار قانون للانتخابات يرضي كل الفئات، على أن تكون الآليات ناضجة لإجراء الانتخابات النيابية في موعدها المقبل، بعد عام.

ويراهن الفرنسيون على أنّ كسر الجليد بين باريس ودمشق سيساهم في تسويق المبادرة. ففي الأشهر الأخيرة عادت الحياة إلى حركة التواصل التي انقطعت بين الفرنسيين ونظام الأسد قبل خمسة أعوام، وشهدت العلاقات بين باريس وطهران مزيداً من التحسّن.

وكانت فكرة باريس الأساسية تقضي برعاية مؤتمر لبناني على أرضها على غرار الدوحة، يقرّ تسوية سياسية تُدير المرحلة الحالية بأقلّ أضرار ممكنة على لبنان، انتظاراً للتسوية الشاملة في المنطقة. ولكن، يبدو حتى الآن أنّ الإجماع اللبناني على مؤتمر في باريس غير متوافر.

ولوحظ أنّ الرئيس نبيه بري طرح مبادرة تقوم على روزنامة تختلف عن الروزنامة الفرنسية، وتقضي بإجراء انتخابات نيابية مبكرة أولاً. وأرفقَ مبادرته برسالة واضحة إلى الذين يعنيهم الأمر، وفيها تشكيك بجدوى عقد أيّ مؤتمر للتسوية بين اللبنانيين في الخارج.

وفي المقابل، ردّ تيار «المستقبل» برفض الانتخابات النيابية المبكرة لأنها تقود إلى مغامرة كبيرة، وكذلك مجمل قوى «14 آذار». وهكذا، اختلطت الأوراق مجدداً، والأرجح أنّ المبادرة الفرنسية عادت إلى النقطة الصفر. ولوحِظ أنّ القائم بالأعمال الأميركي ريتشارد جونز زار برّي في عين التينة ودعا القوى اللبنانية إلى أخذ مبادرته على محمل الجدّ، وقال إنّ الرئيس سعد الحريري، الذي زار أيضاً عين التينة، يفعل ذلك.

وسط هذه الأجواء، كان بديهياً أن يرجئ وزير الخارجية الفرنسي جان مارك إيرولت، في شكل مفاجئ، زيارته لبيروت إلى 10 تموز المقبل، أي إلى ما بعد الزيارتين اللتين تنتظرهما باريس لكلّ من وليّ وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ثم وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف.

ويرى بعض الأوساط في هذا التأجيل علامة إلى أنّ الطبخة الفرنسية موضوعة على النار، لكنّ نضوجها ما زال ينتظر بعض الوقت.

وربما يكون السبب هو الصراع بين فرنسا والولايات المتحدة حول برنامج التسوية. فالفرنسيون يريدون إعادة بناء النظام اللبناني على أسسه الحالية من دون تغيير، فيما واشنطن وطهران ترغبان في إجراء تغييرات.

ومن هنا تتجدّد التكهنات حول ما سيقود إليه الوضع في لبنان، وسط تأكيدات في بعض الأوساط على أنّ الأميركيين والإيرانيين، على رغم تضارب المصالح بينهما في مجالات كثيرة، يمكن أن يلتقيا على إحداث تغيير في النظام اللبناني الحالي. وما سمّي المؤتمر التأسيسي يمكن أن يكون مناسبة لإقرار الصيغة النهائية للبنان، بعد التعطيل المتعمَّد للاستحقاقات والمؤسسات، وعلى رأسها رئاسة الجمهورية والمجلس النيابي.

فهل أخطأ الفرنسيون، مرة أخرى، بحساباتهم عندما تسَرّعوا بتسويق التسوية واستثمار الوقت الأميركي الميت، فدفعوا الثمن مجدداً بإفشال المبادرة؟ وهل ستجد فرنسا نفسها مضطرّة، في النهاية، إلى القبول بالتسوية التي يتفق عليها الأميركيون والإيرانيون؟