IMLebanon

بين التقاطع مع إيران والتحالف مع إسرائيل: هل تُعيد أميركا رسم خرائط المنطقة؟

 

منذ اليوم الأول للحرب الإسرائيلية على غزة، بدأ الحديث عمّا اصطُلح على تسميته «باليوم التالي» أي الوضع الجيوسياسي والعسكري الذي سيسود القطاع عند انتهاء الحرب، ومع تحوّل معركة إسناد غزة التي أطلقها حزب لله في مواجهة إسرائيل الى حرب مفتوحة أطلق عليها العدوّ تسمية «سيوف الشمال» فيما أطلق عليها الامين العام الجديد لحزب لله الشيخ نعيم قاسم تسمية «معركة أولي البأس»، انطلقت ايضاً الفرضيات والتحليلات حول اليوم التالي لانتهاء هذه الحرب، التي قال عنها رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو أنها ستغيّر وجه الشرق الاوسط.

في الواقع، لا يُمكن استخلاص الاستنتاجات الأكثر احتماليةً لما بعد انتهاء هذه الحرب، دون فهم ظروفها وأبعادها وما هو مطلوب من خلالها اقليمياً ودولياً، وكيف يعمل أو يُفكّر من يتحكّمون فيها.

 

وضمن سياق المنطق المتقدّم، قد تكون المقارنة بين «حادثة البرجَين» في ١١ أيلول ٢٠٠١ و «طوفان الاقصى» في ٧ تشرين أول ٢٠٢٣ ضروريةً لمحاولة فهم الواقع الجديد الذي سيسود المنطقة برمتّها عند انتهاء الحرب المتعدّدة الجبهات التي تخوضها إسرائيل حالياً ومن خلفها الولايات المتحدة الاميركية.

في الواقع شكّلت أحداث ١١ أيلول ٢٠٠١ نقطة تحوّل في سلوك «التنظيمات الجهادية السنّية المسلّحة» المتمثّلة بتنظيم القاعدة في حينه، عبر خروج هذا التنظيم عمّا هو مرسوم له، أو مسموح به، من دور عند نشأته في العام ١٩٨٧ بمواجهة الغزو السوفياتي لأفغانستان، في وقت كان فيه  الاتحاد السوفياتي، الى جانب كونه الخصم اللدود لأميركا في حينه على زعامة العالم، يُصنّف «نظاماً شيوعياً ملحداً» في الايديولوجيا العقائدية الراديكالية للقاعدة ما كان محفّزاً ليُعلن هذا التنظيم «الجهاد» بمواجهته، وفرصةً استغلّتها واشنطن في العثور على من يخوض عنها مواجهةً أكثر سخونةً من حربها الباردة مع موسكو.

 

وضمن ذات المنطق يمكن اعتبار ان طوفان الاقصى شكّل خروجاً «للعسكرة التابعة للولي الفقيه» عمّا هو مسموح به لها أميركياً من أدوار في المنطقة العربية وبمواجهة العدو الاسرائيلي، أو أقلّه تجاوزاً للحدود التي يُمكن معها لإسرائيل ومن خلفها أميركا أن تغضّ النظر عنه أو تكتفي بردٍّ ضمن حدود المتوقّع والذيّ كان يُعبّر عنه «بقواعد الاشتباك»، فكأن الحروب في فلسطين المحتلة ومن حولها كانت قبل هذا الطوفان تُخاض عبر إخراجٍ مشترك ثلاثي الأبعاد أميركي – إسرائيلي – إيراني، يُشبه الى حدٍّ بعيدٍ ما كان يحصل في البرنامج الفرنسي الشهير:

«ecole des fans»,حيث رغم التنافسية الظاهرة بين المشاركين كان الجميع يخرجون فائزين، او كما كان يقول مقدّم البرنامج الراحل جاك مارتن «tout le monde a gagné».

 

لا يُمكن اعتبار الحديث عن هذا الاخراج المشترك، والمكاسب المتبادلة في ظلّه، أمراً مبالغاً فيه، اذ أن أولى نتائج «حادثة البرجَين» كانت بروز تقاطع مصالح أميركي – إيراني على حساب التقاطع الذي كان قائماً بين القاعدة وأميركا، خصوصاً مع انتهاء صلاحيته بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والبطالة التي لحقت بالقاعدة في أفغانستان ما سمح لها في لحظة ١١ أيلول ٢٠٠١ بنقل ساحة «الجهاد» الى قلب أميركا. وتجسّد التقاطع الجديد بشكلٍ واضحٍ في الحرب التي شنّتها أميركا على العراق تحت ذريعة أسلحة الدمار الشامل، وليس مجرّد مصادفة هنا أن العراق في عهد رئيسه الراحل صدام حسين كان البلد العربي الوحيد الذي دخل بحربٍ مباشرة مع إيران في زمن الولي الفقيه، عُرفت بحرب الخليج الاولى، وليس مصادفةً أيضاً حدوث اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في زمن هذا التقاطع الجديد، فقد نتج عن هذا الاغتيال  تحوّلات تاريخية تمثّلت بخروج الجيش السوري من لبنان وتوسّع النفوذ الإيراني فيه، حيث من الدقيق القول أنه قبل هذا الاغتيال كان «محور الممانعة» في لبنان يحمل محرّكاً سورياً وذيلاً إيرانياً، وبعد هذا الاغتيال تركت إيران الذيل لسوريا وأدارت المحرّك بنفسها وسلّمت عجلة القيادة لحزب لله الذي عرف كيف يمسك بمعظم مفاصل السلطة في لبنان وصولاً الى الاستئثار بقرار السلم والحرب في تموز ٢٠٠٦ كما في الحرب الحالية.

 

أدى تقاطع المصالح الأميركي – الإيراني بعد حرب الولايات المتحدة ومعها قوّات التحالف الدولي بوجه العراق في العام ٢٠٠٣،  الى سقوط حكم البعث ونظام الرئيس صدام حسين الذي أُلقي القبض عليه في ذات العام واستمرّ اعتقاله لحين تنفيذ الاعدام بحقًه في ٣٠ كانون الاول ٢٠٠٦. وليس مجرّد تفصيل أن المحكمة التي حكمت على صدّام بالإعدام أنشأتها الولايات المتحدة في حين تُرك أمر تنفيذ الحُكم لعناصر تتبع لإيران، كما ظهر من التسريب المتعمّد للعبارات المذهبية التي تعالت في قاعة الاعدام. فقد نشأت على أطلال تلك الاحداث وتحت وطأة الضربات الأميركية والتمدّد الإيراني الحاصل في ظلّها من العراق الى لبنان مروراً بسوريا، تنظيمات «سنيّة» متشدّدة من داعش وغيرها، كانت كفيلة بنقل ساحة «الجهاد» من Twin Towers في نيويورك الى بغداد والموصل وكربلاء وغيرها من المدن العراقية التي سيطرت عليها إيران تحت نيران صواريخ الكروز والتوماهوك الأميركية. وحتى لُبنان وسوريا لم يسلما لا من تلك التنظيمات الارهابية، ولا من توسّع النفوذ الإيراني فيهما.

وفي حين شكّل ١١ أيلول ٢٠٠١ بدايةً للتقاطع الإيراني الأميركي في المنطقة، فإن ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ شكّل بداية الخروج منه، على الاقل من ناحية الموقف الأميركي المتحالف مع إسرائيل كأولوية استراتيجية، خاصّةً أنه لأول مرّة ظهر أن ثمة تناقضات حقيقية بعد عملية طوفان الاقصى بين مصالح هذا التحالف وبين تمدّد النفوذ الإيراني الذي سمح به ذاك التقاطع.

فمن وجهة نظر أميركا كان النفوذ الإيراني في المنطقة حاجةً لضمان أمنها عبر إبعاد خطر «الجهاد السنيّ» عنها من خلال نشوء نزاعات مذهبية مسلّحة في المنطقة العربية من شأنها إراحتها وإراحة اسرائيل في ذات الوقت. ومن وجهة نظر إيران كانت أميركا وحربها على العراق ضروريةً لها لتحقيق ما عجزت عنه طوال ثماني سنوات من حربها مع العراق وهو اسقاط نظام صدام حسين والسيطرة على العراق، كمدخلٍ لبسط سيطرتها على ما اصطلح على تسميته «بالهلال الشيعي» والممتدّ من إيران الى لبنان مروراً بالعراق وسوريا، خاصّةً أن من شأن ذلك، اذا ما أُضيف الى نفوذها في اليمن عبر جماعة الحوثي، أن يلعب دوراً محورياً في تعزيز مكانة إيران الاقليمية والدولية ويُساعدها في تحقيق أهدافها السياسية التوسّعية في المنطقة العربية، والأمنية عبر الضغط على أمن دول الخليج العربي وخاصة المملكة العربية السعودية والامارات العربية المتّحدة، والعسكرية من خلال زيادة عامل الردع لحماية برنامجها النووي، والايديولوجيا من خلال تصدير الثورة الاسلامية، والدينية عبر زيادة عدد المسلمين الشيعة التابعين لمرجعية الوليّ الفقيه، فضلاً عن مصلحتها الاقتصادية في الحدّ من عزلتها الدولية وتأثير العقوبات عليها والسيطرة على طرق الامداد البرّية كعامل قوة يُضاف الى تحكّمها بحركة الملاحة البحرية عبر مضيق هرمز الذي يُشكّل أحد أهم الممرّات البحرية للتجارة العالمية ونقل النفط.

الاّ أن عملية طوفان الاقصى التي قامت بها حماس، المدعومة بشكلٍ معلن ومباشر من إيران، وإن تنصّلت هذه الاخيرة من علمها المسبق بها، شكّلت تخطياً من إيران لحدود الدور المرسوم لها أميركياً والمقبول به إسرائيلياً في المنطقة. وقد شكّل اغتيال إسرائيل لزعيم حماس إسماعيل هنيّة، الرسالة الاوضح على عدم القبول الإسرائيلي والأميركي بهذا التجاوز الذي كسر «قواعد الاشتباك»، التي راهن حزب لله على استمرار صلاحيتّها عند اطلاقه معركة اسناد غزّة، وكان ذلك الاغتيال مؤشراً واضحاً على اتجاه المنطقة نحو الحرب المفتوحة، اذ أن حصوله داخل الاراضي الإيرانية عشية حفل تنصيب الرئيس الإيراني الجديد، حمل دلالات تصعيدية واضحة أقحمت إيران لأوّل مرّة في المواجهة المباشرة مع اسرائيل.

يُمكن اعتبار أن اغتيال هنيّة شكّل عملية «جسّ نبض» اسرائيلية لإيران ومعها حزب اللّه لقياس ردّ فعل كلّ منهما، قبل التصعيد الإسرائيلي في لبنان من تفجيرات البايجر وصولاً الى اغتيال السيّد حسن نصر لله، وما بينهما وما بعدهما من اعتداءاتٍ واغتيالات. ولا شكّ أن عجز إيران أو امتناعها عن الردّ بفعالية، زاد من حماسة نتنياهو على الاستمرار في التصعيد، وفتح الباب أمام تحوّلات جوهرية في ميزان القوى الاقليمي، قد تفرض تغييراً جذرّياً في سلوك إيران المحكومة بالتعاطي بعقلانية مع عملية التطويق والتطويع التي تتعرّض لها اليوم والتغاضي عن محاولة ليّ أذرعها أو حتى بترها، إذا ما أرادت حماية أولوياتها الاستراتيجية الطويلة الأمد والمتمثّلة ببرنامجها النووي.

وفي خضم هذه التحولات الكبرى، يُمكن من دون جهد ملاحظة حصول تبدّل في أدبيات إيران الثابتة منذ الثورة الاسلامية تجاه أميركا من وصفها «الشيطان الاكبر» من قبل المرشد السابق الخميني والمرشد الحالي الخامنئي الى وصف «الشعب الاميركي بالصديق» على لسان الرئيس الإيراني الحالي بزشكيان، والذي تخلّى أيضاً عن شعار إزالة إسرائيل من الوجود مصرّحاً ان إيران ترغب أن يعمّ السلام في المنطقة.

الاّ أن تبديل المفردات لم يترافق حتى الآن مع أي تغيير في السلوك، وقد يكون مردّ ذلك أن طهران لا تُريد دفع الثمن لإدارة الرئيس الاميركي الحالي جو بايدن، وكانت بانتظار نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، وهي الآن بانتظار ما سيحمله الرئيس المنتخب دونالد ترامب لها أو ما سيطلُبه منها ترغيباً أو تهديداً، حتى تتمكّن من معرفة المسارات الآمنة التي ما زالت مفتوحة أمامها ووجهتها أو محطّتها النهائية.

يبقى أنه، ومع تصاعد حدّة الأعمال العسكرية الإسرائيلية وتوسّع رقعتها الجغرافية، من المبكّر استخلاص أُفق الحرب الدائرة حالياً ونتيجتها النهائية، ولكن ممّا لا شكّ فيه أن محاولة إيران التنصّل من عملية طوفان الاقصى وتبرير عدم انخراطها في الحرب بأن «المدرّب لا يُشارك في اللعب»، لن تكون كافية لإبقائها واقفةً على حافة «الملعب» أو الميدان، أو لتجنيبها البطاقات الصفراء التحذيرية وحتى الحمراء الاقصائية عن المشاركة في رسم مستقبل المنطقة. واذا كان صحيحاً أن إيران تصرّفت دوماً على أنها خارج «حلبة الصراع المباشر» تاركةً إياها الى أذرعها، فإنه من الصحيح أيضاً أن الولايات المتّحدة هي المنظّم الرئيسي «لحلبة الصراع» في هذه المنطقة، والقادرة على إدارة قواعد هذا الصراع وتحديد هوية اللاعبين فيه والتحكّم بالجمهور، تاركةً هذا الاخير، أو من بقيَ منه على قيد الحياة، مشدوداً بين التوتّر والخوف وهو يُراقب الحلبة، على الشاشة أو في الميدان، من دون أن يدري ماذا يُحكى في كواليسها عن تسوياتٍ أو ما يُحاك من مؤامرات، خصوصاً مع عودة الرئيس الاميركي دونالد ترامب المتمرّس قبل السياسة بإدارة حلبات التصارع الأكثر عنفيّةً والأشد اثارةً والتي قلّما تنتهي بالنقاط وغالباً ما تُحسم بالضربة القاضية.

«راجح»