لا تُشبِه المعركة الدائرة اليوم بين العدو الإسرائيلي والمقاومة على مختلف الجبهات أي معركة حصلت في السابق، لا في الشكل ولا في المضمون، فمِن ناحية العدو فهي حرب وجودية، ومن ناحية محور المقاومة هي حرب تراكم إنجازات وتجميع نقاط للوصول الى هدف إزالة الكيان من الوجود…
لعلّها المرة الأولى التي يَسبق فيها الفعل القول، بحيث بحق طُبِّقت مقولة لا صوت يَعلو فوق صوت المعركة، والكلمة للميدان تماماً كما قال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في خطابه في يوم شهيد حزب الله، فهذه المعركة مختلفة بكل جوانبها ولا تُشبِه المعارك السابقة، وتحديداً على جبهة جنوب لبنان من ناحية التكتيكات الجديدة، وأنواع الأسلحة التي تكشف عنها المقاومة كل يوم، والخسائر التي يتكبّدها العدو، فالحرب هناك تم دوزنتها بتقديرات دقيقة وصحيحة بحيث قلبت المشهد المُعتاد، وباتت “إسرائيل” بموقع الدفاع، والمقاومة بموقع المبادرة والهجوم بصواريخ موجَّهة مُضادة للطائرات ومسيّرات إنقضاضية مسلّحة، كما كشفت عن صاروخ “بركان”، عدا عن إطلاقها الطائرات المسيّرة فوق الأراضي المحتلة، وباعتماد هذه الاستراتيجية استطاعت المقاومة الإسلامية في لبنان تدمير “خط الدفاع الإسرائيلي” الذي بدأ العدو ببنائه عام ٢٠٠٠ ، فدمّرت تحصيناته ومعدّاته، عدا أن بعض مواقعه أصبحت خالية على الحدود مع لبنان.
تحوَّل الجنوب بفعاليته العالية ونتائجه الممتازة الى جبهة هجومية في مواجهة “إسرائيل” المردوعة، لدرجة أن الخسائر التي تلحقها بها المقاومة الإسلامية لا تدفعها الى ارتكاب حماقة، إنما تردعها أكثر وتُشعِل الخلافات داخل قياداته، لأن العدو يعلم أن جنوب لبنان هو مفتاح جبهات المنطقة، وهذا ما يتجنّبه من البداية.
وعلى أهمية جبهة الجنوب في مساندة غزة، جاءت أهمية باقي جبهات محور المقاومة، باعتبار أن العدو لم يحسب لها حساباً أو لم يُجرِّبها من قبل، وهنا تكمن أهمية دورها في المعركة وأهمية مشاركتها من سوريا الى العراق الى اليمن، حيث الجبهة التي يُخاض فيها أهم مسرح عمليات من مختلف النواحي، فإذا كان المقصود من هذه المعركة أن تكون جولة من الجولات الفاصلة، فإن أبرز مفاجآتها للعدو المحاصَر بين جبهتي الجنوب والشمال أتته من حيث لا يَحتسب أيا من جبهات مختلفة، أظهرت قدرتها الكبيرة على القتال وأحدثت فرقاً في هذه المعركة، وهذا ما ركّز عليه السيد نصرالله في خطابه الشامل والإستراتيجي، فبعد أن حدّد الرؤية والآلية المُعتمَدة في هذه الحرب في خطابه الأول، جاء خطابه الثاني ليَشرح أكثر عن مسارح العمليات وأهميتها والجهد الذي يُبذَل فيها، والذي يأتي بمسار تدريجي تصاعدي وفق الحاجة الميدانية.
إزاء كل ما يَحدث وكل هذه الخسائر التي يتكبّدها العدو ما زال يُروِّج لحربٍ طويلة، ما يَعني المزيد من الخسائر، فهل يتحمّلها الصهاينة؟ بالطبع لا.. ففي المعطيات الموجودة والمنطق الطبيعي للأمور ومسار المعركة الحالي، وطبيعة جيش العدو الذي من الأساس يَعتمد فلسفة الحروب السريعة، لأن إطالتها تُعتبر حرب استنزاف له لا يَقوى عليها، على عكس طبيعة المقاومة التي تَعتمد فلسفتها على حروب طويلة الأمد مع عدم تغييب الشق الإنساني، الذي يَبقى عاملاً ضاغطاً عليها، وبخاصة أن “إسرائيل” دائما تعوِّض عن فشلها العسكري بارتكاب المزيد من المجازر ضد المدنيين.
ورغم هذه القواعد المعروفة في كافة الحروب عبر التاريخ، فان الجديد هذه المرة من ناحية العدو أنه يَعتبرها حرباً وجودية بالنسبة له، وهذا ما يُصعِّب توقّع السيناريوهات المفترَضة لمسار الأمور. أما من ناحية المقاومة بتعدّد جبهاتها فهي أثبتت بالتجربة وللمرة الأولى أيضاً أن وحدة الساحات ليست شعاراً، فهي ماضية باستراتيجيتها على دفعات وليس دفعة واحدة، بمسار حافل بالمفاجآت التي تُحاصِر العدو وتُشعِره بصعوبة بقائه، ما يجعل سيناريو إزالته يقينيا بالنسبة لها…