تتحضّر أرمينيا للاحتفال بالذكرى المئوية للإبادة الأرمنية. تشرع أبوابها لكل أرمن الانتشار الذين ستغص بهم العاصمة يريفان. فهذا البلد الواقع في القوقاز، البعيد نسبياً عن لبنان في ذاك الشرق المتوجّع، يتشارك معه في لعنة الجغرافيا ونعمة الانتشار.
يجد الأرمن، الذين يبلغ عددهم في العالم أكثر من ضعفَي المقيمين في أرمينيا، مناسبة الذكرى المئوية محطة للعودة الى الجذور. تحوّل البلد الأم بالنسبة الى كثيرين منهم دولة الحنين الى الأمة المشتهاة. دولة أشبه بمزار يُبقي الصلة بين ماضي الأجداد ومعاناتهم ونضالاتهم وحاضر الأبناء الذين استقروا في بلدان انتشارهم.
وحدهم اليوم أبناء سوريا ذوي الأصول الأرمنية يقومون بهجرة جديدة الى ارض آبائهم واجدادهم. فقد بلغ عدد الهاربين من الجحيم السوري الى ارمينيا ما بين 10 الى 12 الف شخص. لكل واحد منهم قصة. قد تتشابه عناوينها: تهجير واقتلاع من أرضهم وبيوتهم وأماكن ذكرياتهم. لكن تفاصيلها شخصية حتى حدود الوجع والدمع. فـ”هاسميك”، التي تؤكد أنها لن تعود الى سوريا من جديد بعد أن استقرت هنا، يشي تهدّج صوتها عند الكلام عن بيتها الصغير الذي صنعت كل تفصيل من تفاصيله بغير ذلك. أما زوجها انترانيك فأكثر وضوحاً “سنعود حتماً عند استقرار الاوضاع”.
ليست الحياة سهلة على الأرمن السوريين في ارمينيا. يجزم جورج الذي يبيع حليّاً فضية في شارع “فرنيساج” بأن “العمل هنا موسمي وشاق. كثر من الأقارب والجيران والمعارف السوريين الأرمن أتوا الى ارمينيا وغادروها لصعوبة العيش. أرمينيا ليست لبنان او سوريا، تبقى البلد الأم”. لكنها قد تتشارك معه بالنسبة الى بعض هؤلاء لكونها محطة للانتقال الى بلد أوروبي او الى كندا وسواها. وهو ما يؤكده عضو اللجنة العالمية لحزب “الطاشناق” غيرو مانويان. مانويان نفسه سبق أن اختبر تداخل الهويات وتعقيداتها. فهو المولود في لبنان، سافر وعمل واستقر في كندا لتقوده الدروب مجدداً الى يريفان.
ترى هل كل الدروب تقود الأرمن إلى أرمينيا؟
ليست الإجابة سهلة على الإطلاق. وليست “الهوية” أزمة منطقتنا العربية وحدها.
لم يعد مستغرباً أن تتحدّث العربية في أرمينيا فتجد من يردّ عليك. سوريون ولبنانيون. حملتهم ظروف مختلفة الى هنا. كان يكفي “رازميك” أن يتعرف الى لهجتنا اللبنانية ليبادر الى عرض مساعدته. رازميك أتى من لبنان قبل أربعة أشهر ليخوض مغامرة افتتاح مطعم لبناني، يعرف مسبقاً أن الإقبال سيكون كبيراً عليه.
يؤكد سفير لبنان في ارمينيا جان معكرون أن “حوالى 800 عائلة لبنانية تقيم اليوم في أرمينيا، بينهم قسم كبير يستثمرون فيها. تسعون في المئة من هؤلاء من أصول أرمنية. الآخرون يرون في هذا البلد الذي ينمو فرصة للاستثمار. يشجعهم على ذلك الاستقرار والأمان والحافز الاقتصادي. اما الأسباب القومية فتأتي في المرتبة الثالثة”.
بين 1915 و2015 مئة عام طويلة. حمل الأرمن خلالها أرمينيا معهم على دروب هجرتهم. لم يحملوا فقط الألم والمعاناة، بل كل ما اختزنته ذاكرتهم وثقافتهم. ضجّوا بموسيقاهم ولوّنوا الحياة برسومهم وأغنوها بحرفهم. فعلوا كل ذلك واحتفظوا بحقهم في الاعتراف بالإبادة والتعويض على ضحاياها. وفي هذا الإطار ينطلق اليوم “فوروم” يحمل عنوان “عودة الى جذور أرارات” في العاصمة الأرمنية، يشارك فيه ممثلون من كل دول العالم، وهو واحد من سلسلة مناسبات في إطار الذكرى المئوية للإبادة الأرمنية.