بدت أرمينا أخيراً وكأنها تتجاوز مرحلة ما بعد التردي السوفياتي لتخطو أولى خطواتها نحو الديمقراطية والتغيير، وذلك بفضل حركة شعبية شقّت طريقها نحو روسيا الجديدة والغرب.
فقد احتشد عشرات الآلاف في أكبر ميادين العاصمة الأرمينية يريفان مؤخراً، ليرددوا هتافات «النصر… النصر»، في مشهد وصفه أحد أنصار الإصلاحات الأرمنية في الولايات المتحدة بأنه «احتفال بالبلاد أكثر منه احتجاج». فقد تسببت الاحتجاجات التي جابت الشوارع طيلة الشهر الماضي في عزل رئيس الوزراء، سيرج سركسيان، فيما بدت الطريق ممهدة لإسقاط حزبه الذي حكم البلاد لفترة طويلة.
فقد أظهرت المقاطع المصورة التي اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي الأربعاء الماضي، بلداً مقبلاً على حركة إصلاح كبرى بقيادة نيكول باشنيان الذي يسعى ليحل مكان سركسيان. وكرد على دعوة باشينيان لإغلاق العاصمة، قام طلاب معهد الموسيقى بعزف الموسيقى الكلاسيكية في أحد التقاطعات المرورية، فيما اصطف المحتجون وانهمكوا في أداء رقصة جماعية. وأغلق فتى صغير مدخل الشارع بلعب على شكل سيارات، في صورة بثتها قناة «سي إن إن» الإخبارية.
أدلى باشينيان بتصريح وكأنه يعلن النصر، حيث قال أمام جموع المحتجين، «الآن سنتوقف لوهلة لنأخذ قسطاً من الراحة». وقبل ذلك بيوم، كان البرلمان الأرمني الذي يهيمن عليه حزب سركسيان قد حقق نصراً ضئيلاً على باشينيان بعدما تقدم بمقترح لتشكيل حكومة جديدة. لكن تتبقى مرحلة تصويت ثانية في 8 مايو (أيار) الحالي، ولمح الحزب الجمهوري الحاكم إلى أنه لن يعارض الإصلاحيين.
وحال نجح باشينيان في تشكيل حكومة جديدة، فسوف تحوز رضا الأغلبية، لأن الشرطة والجيش كلاهما رفض فتح النار على المتظاهرين الذين احتشدوا في الشوارع والميادين بأعداد غفيرة لمساندته. ومن البديهي أن رفض قتل المواطنين يمثل نواة للتغير الاجتماعي الذي يحظى بأهمية كبيرة في أرمينيا، حيث أحيت البلاد ذكرى (ما يقولون عنه) إنه مذابح ارتكبت أيام الأتراك العثمانيين عام 1915.
تمثلت المعضلة السياسية الأرمنية خلال الخمسة والعشرين عاماً الماضية في كيفية تحقيق التصالح بين نهج التعاطف مع السياسة الغربية وبين الاعتماد العسكري على روسيا. فقد ساعد ذلك المأزق على تكوين دائرة من القلة المؤيدة لموسكو حول ساركسيان الذي اختلس الكثير من ثروات البلاد. وبالنسبة لروح المبادرة لدى العامة، فلم تحقق أرمينيا الفاسدة والفاشستية الانطلاقة الرأسمالية التي حققتها غيرها من دول الاتحاد السوفياتي السابق أو دول «حلف وارسو»، عقب تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991.
وتساءل المصلحون عن السبب في تذيل أرمينيا قائمة دول الاتحاد السوفياتي فيما يخص الحرية السياسية وسيادة القانون والنمو الاقتصادي. وقد صنفت مجموعة «المنتدى السياسي الأرمني» النشطة، ومقرها واشنطن، سلسلة من التقارير الموثقة عن الفساد وحقوق الإنسان والإصلاحات السياسية.
وبدا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قابل الاحتجاجات بصدر رحب حتى الآن. وبدا أنه فضل التضحية بحليفه ساركسيان على المغامرة بخسارة أرمينيا نفسها. وفي هذا السياق، فقد أبلغني قائد إصلاحي الأربعاء، أن بوتين «أراد أن يتجنب أوكرانيا جديدة». وبسبب العلاقة الوثيقة القديمة بين روسيا وبين أرمينيا، ربما كان لصور المظاهرات التي اجتاحت العاصمة يرفين أثرها التعبوي على روسيا أيضاً.
وجادل رفقاء باشينيان في الحركة الإصلاحية بأنه تمكن من تجاوز مستنقع ما بعد الاتحاد السوفياتي للعديد من الأسباب. أولاً، أن حركته لم تعتمد على العنف، واستندت إلى شرائح متنوعة، بدءاً من جيل الصبية إلى جيل الأجداد، وجاء شعار «ارفعوا أيديكم» ليرمز لحركة العصيان المدني، وليصبح شعاراً للمتظاهرين الذين انضموا إلى المسيرات التي تقدمها باشينيان في العاصمة الأرمينية الشهر الماضي، والتي توجت باستقالة ساركسيان. ثانياً، تجنب باشينيان الانحياز لأي من الجانبين الروسي والغربي، وقرر السير في طريق ضيقة اعتبرها أحد قادة الإصلاح الأرمنيين «نهجاً يرتكز إلى أرمينيا». فقد طمأن باشينيان موسكو بإعلانه أنه لا ينوي الانسحاب من الاتفاقات العسكرية والتجارية الموقعة مع روسيا حال أصبح رئيساً للوزراء. وفي الوقت نفسه، تسببت حركته المؤيدة للديمقراطية في إثارة التعاطف في أوروبا والولايات المتحدة، مما أعطى الأمل في صداقات أوسع للدولة الصغيرة الحصينة.
والآن فقد مرّ عامان على بداية حركة الإصلاح الأرمنية منذ أن استولى محتجون مسلحون على قسم شرطة في العاصمة يريفين في يوليو (تموز) 2016، واحتلوه طيلة أسبوعين، احتجاجاً على القمع السياسي من جانب الحكومة، والفساد والتردد في معالجة قضية إقليم ناغورني كراباخ، وهو الإقليم الذي يسكنه أرمنيون، الذي استولت عليها حكومتهم من أذربيجان بعد حرب شرسة دارت رحاها عام 1994.
وفي سياق متصل، صرح جيرجار سيفليان، القائد العسكري الأرميني السابق لبناني المولد، الذي كان أحد منظمي احتجاجات 2016 التي أطلق عليها اسم «البرلمان التأسيسي»، بقوله، «نرفض أن نصبح مقاطعة روسية».
ومن المقرر أن يتولى سيفليان منصب وزير الدفاع حال نجح باشينيان في تشكيل حكومة جديدة، وإن كانت ميوله الغربية ربما تتعارض مع موسكو.
تعد حركة باشينيان بالتغيير، لكن شأن غيرها من الاحتجاجات الشعبية، فإن التفاصيل تبقى غامضة.
وتحمل جماعته اسم «العقد المدني» التي تستند إلى تعهد الحكومة الجديدة أمام الناس بتنفيذ تعهدات محددة. وحتى أنصار حركته غير متيقنين من محتوى أجندته الجديدة. لكن في خضم المظاهرات الأخيرة يمكن أن نرجئ النظر في التفاصيل لبعض الوقت.
*خدمة «واشنطن بوست»