صراع مُزمن بين أرمينيا وآذربيجان على إقليم كاراباخ، تُستأنف فيه كلّ فترة لغة النار والسلاح، مقابل هشاشة الحلول الديبلوماسية، ووسط إصرار كل من الدولتين على سلطتهما للإقليم، الذي أصلاً كان يتمتع بالحكم الذاتي منذ عام 1923، وتم التصويت من قبل سكانه على عريضة للانضمام إلى أرمينيا.
يوم السبت الفائت 10/10/2020 تمّ الاتفاق على وقف لإطلاق النار بين أرمينيا وآذربيجان برعاية روسية. المحادثات التي استمرت نحو 10 ساعات، جَرت في موسكو، وكانت أوّل اتصال ديبلوماسي بين الطرفين منذ اندلاع القتال في 27 أيلول الفائت، حيث أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بعدها أنّ «يريفان وباكو اتفقتا على بدء محادثات بشأن تسوية الصراع».
الاقلاع عن لغة السلاح والجلوس إلى طاولة المفاوضات، يعتبرهما عدد من دوائر القرار الأرميني انتصاراً مهماً لهم، لأنّ سلوك طرق الديبلوماسية سيُبقي على منافع يريفان في الإقليم ولن يجعلها تُقدِم على تنازلات لا ترغب فيها، قد تؤثر على حَركتها الجيوسياسية في الإقليم والمنطقة، فيما سلوك طريق الحرب غير مضمون النتائج، على رغم من شراسة المقاتلين الأرمن، الذين، وفقاً لمعلومات «الجمهورية»، كانوا طوال أيام الحرب يَصدّون هجمات متكرّرة على مدار الدقائق في وجه محاولات القوات الأذرية إحداث خرق في جبهات القتال. وهو أمر تحدّث عنه مستشار رئيس جمهورية ارتساخ للشؤون الخارجية دايفيد بابيان، لافتاً الى انّ «التركي اعتقدَ في البداية أنه سيدمّر ناغورنو كاراباخ في غضون عدة ساعات من خلال تحطيم الجيش والمجازر ليُصار بعدها الى تنظيف المنطقة، لكنّ خطتهم فشلت، ونشهد قتالاً عنيفاً عند كل شبر من الحدود، كما أنّ الجيش الأذري الذي يضرب الاحياء السكنية ويقصف الكنائس، يحاول في كل دقيقة الاختراق من موقع مختلف».
خرق الهدنة
لم تمرّ 24 ساعة على محادثات موسكو حتى بدأت الاتهامات المتبادلة بين الطرفين على خرق الهدنة، وتتواصل المعارك حتى الساعة، ما شكّل سقوطاً مدوياً لجهود موسكو ووقف إطلاق النار والعودة إلى الحرب.
الطرف الأرمني لم يستغرب هذا الخرق، إذ إنّ التجربة مع آذربيجان، ومن خلفها تركيا، قديمة، وليس هناك عادة بأن يلتزما أيّ وعود. ويقول مستشار رئيس جمهورية آرتساخ غارو كبابجيان لـ«الجمهورية» إنّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يعتبر نفسه سلطاناً وهو لا يقبل بأن يأخذ تعليمات من أحد، حتى من الناتو. هَمّه توسيع نفوذه، لذلك، لا أمل في الأفق لدى الأرمينيين بأنّ اتفاق وقف إطلاق النار سيَدوم».
تَشابك المصالح
تاريخياً، ترتبط تركيا بعلاقات استراتيجية مع آذربيجان التي تعتبرها أنقرة حديقة تركية انتُزعت قسراً منها بعد تحولّها من أمبراطورية الى دولة، وتمّ ذلك على أيدي الروس. وموقف اردوغان إلى جانب آذربيجان في المعركة «حتى النهاية» يفسّر الرغبة التركية في استعادة الأرض من خلال القوة، معتمداً ربما على تحالفات سرية وتغطية دولية تخدم مصالح عدة أطراف ودول. لكن يقابل ذلك، تَوجّس روسي من تمدّد تركي على حساب روسيا في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، مقابل وقوف إيران على الحياد لأسباب عدة، ودعوتها لحلّ النزاع بشكل سلمي.
ويكشف مستشار رئيس جمهورية آرتساخ لـ«الجمهورية» عن محاولات لِجرّ أرمينيا إلى الحرب، وعن مخطط دولي لدفع روسيا وإيران للتدخل في هذه الحرب مباشرة».
ويقول: «نحن الأرمن نحارب من أجل القضية الأرمنية، لن نسمح لأحد بأن يجعلنا ألعوبة بيديه، كما أصبحت آذربيجان ألعوبة بيد تركيا التي بدورها أضحَت ألعوبة بيد بعض الدول الكبرى التي تريد أن تستخدم هذا الصراع في حربها مع الصين. فمَحو أرمينيا عن الخريطة يُسهّل وصول أردوغان إلى الصين، خصوصاً أنّ أساس الأتراك هو من قبائل صينية، وبالتالي هناك ملايين من الأتراك موجودون في الصين مستعدون لتلبية نداء أردوغان لمحاولة تفكيكها. من هنا، فإنّ اللعبة أكبر من أرمينيا وآذربيجان، ونحن لم ولن نسمح للغريب بأن يتدخّل في أرضنا»، مشيراً إلى أنّ «للولايات المتحدة الأميركية مصالحها الخاصة، وهي تُدَلّل تركيا لوجود مئات المقاتلين على أراضيها».
هذه القراءة الأرمنية لمواقف واشنطن، لم تمنع يريفان من التقرّب وفتح قنوات الديبلوماسية معها، ومع عدد من الدول، وهو ما كَشفه المستشار بابيان أمام الوفد الإعلامي اللبناني، عن «علاقات أخوية مع الولايات المتحدة وروسيا وايران ودول أخرى، وعن خطوات في اتجاه اكثر من بلد لممارسة ضغط أقوى على آذربيجان، بعد أن اتخذت المعركة منحى جيوسياسياً مختلفاً، حيث تتشارَك للمرة الاولى الولايات المتحدة والصين وروسيا، وربما إيران، الرأي نفسه بشأن الخطر الذي يشكله سلوك تركيا».
التسلّح
هذه المعطيات تطرح مسألة التسلّح على بساط البحث، خصوصاً إذا ذهبت الأمور باتجاه حرب طويلة. فوسط المعلومات التي تفيد عن تلقّي آذربيجان سلاحاً نوعياً من تركيا واسرائيل لتغيير مسار المعركة، طُرح السؤال على قياديي آرتساخ، فأكدوا أن لا شي يمنع من التسلّح، والخيار مطروح على الطاولة، والديبلوماسية الأرمنية تتحرّك على كل المستويات، فيما الشتات الأرمني يقوم بما هو مطلوب منه وأكثر على صعيد جمع الأموال، وخصوصاً من قبل «الجمعية الخيرية العمومية الأرمنية»، ولتقديم الدعم المادي المطلوب، والمساعدات الإنسانية، وقد تمّ في أسبوع واحد جَمع نحو 60 مليون دولار، وقد يصل المبلغ الى الملايين، لتأمين كل ما يتطلبه دعم القضية الأرمنية وصمودها.
التكتيك الأرمني
في موازاة ذلك، تعتمد القيادة العسكرية في أرمينيا سياسة التروّي لعدم الانخراط في حرب مباشرة مع آذربيجان، تكون خدمة لأطراف خارجية وتعود بالضَرر على الشعب الأرمني أو على قضية ناغورنو كاراباخ.
ويقول ممثّل جمهورية آرتساخ في أرمينيا، سيرغي غازاريان: «انّ جمهوريتَي آرتساخ وأرمينيا يحاربان وحدهما ضد الارهاب العالمي. فلو كانت المواجهة بين آرتساخ وآذربيجان لكنّا انتصرنا وخسرت آذربيجان كما خسرت في السابق».
من جهته، يقول كبابجيان: «عندما قصفوا ستيباناكرت كان يجب أن نقصف باكو لكننا لم نفعل، بل صَمتنا، لأنّ أيّ ردة فِعل من قبلنا ستكون قوية وحاسمة، لكن نريد للعالم أن يرى ماذا يجري فعلياً على الأرض».
ويضيف: «لا نريد أن نكشف كل أوراقنا، ولا ماذا نَمتلك من سلاح. نحن لو أردنا الردّ نستطيع ان نحرق آبار النفط والغاز، وحتى باكو، ونفجّر السدّ. لكننا نتروّى، لأنّ الضرر الأكبر سيلحق بأوروبا، ولا نريد ذلك. نطلب من الدول التدخّل لأننا نريد ان تُحلّ الأمور سلمياً، فبالنسبة لنا لا مجال للحلول الوسط، لذلك في أيّ حرب مقبلة، فإمّا تزول أرمينيا او تزول آذربيجان. من هنا، نرجو من العالم التدخل لتفادي الحرب ومعرفة أنّ الأرمن لهم الحق في العيش في الأراضي التي يسكنونها منذ أكثر من 4 آلاف عام. لا نريد مَقابر بل نريد سلاماً».
الاعتراف بآرتساخ… ونهاية القصة
إذاً، بحسب الأرمينيين، فإنّ آرتساخ تحارب الارهاب الدولي المتمثّل بتركيا وآذربيجان والمحور الذي يدعمهما، فيما الحلم العثماني يعمل لجمع الشعوب التركية من الشرق الى الصين وإنشاء دولة تركية عظمى. من هنا، تُجمع القيادات الأرمنية، السياسية والروحية والعسكرية على مبدأ واحد، وهو أنه لا يمكن للأرمن أن يعيشوا تحت السيف التركي. وأيّ طريق إلى السلام في المنطقة تبدأ بالاعتراف بجمهورية آرتساخ او ناغورنو قره باخ. بالنسبة لهم، الشعب الأرمني الذي عانى الاضطهاد والقمع وقدّم الشهداء والجرحى لن يوقِف الحرب.
ولعلّ كلام كاثوليكوس عموم الأرمن كاريكين الثاني خلال لقائه الوفد الإعلامي اللبناني في دير اتشميادزين، مَقر كاثوليكوسية عموم الأرمن، يشكّل بداية القصة ونهايتها، فهو يقول: «إنّ الحرب لن تصل الى النتيجة المرجوّة، إلّا أنّ الفَرقَ في الثقافة والنظرة تجاه السلام بين البلدين واضح جداً، ما يمنع أن يعيش الشعبان تحت سماء واحدة وفي بلد واحد ونظام واحد. ما من إنسان في آرتساخ يمكنه تَقبّل العَيش في نظام آذربيجان».