Site icon IMLebanon

Հայոց Ցեղասպանութիւն

في الرابع والعشرين من نيسان من كلّ عام، يتذكّر الأرمن المقتلة الكبرى التي حصلت في العام 1915، Հայոց Ցեղասպանութիւն، على أيدي القوات الأمبراطورية العثمانية. هذه السنة، يكون قد مرّ مئة عام على عدم الاعتراف التركي بالإبادة. منذ ذلك التاريخ، حصلت المجزرة الكبرى في فلسطين على يد الصهيونية، بغطاء دولي سافر. ثمّ جرت، ولا تزال تجري، إبادات شبه منهجية – بل منهجية – في حقّ شعوب هذا الشرق وأقلياته، على أيدي حكّامه وظلامييه، في وقتٍ ترى تركيا “العلمانية” نفسها الآن، في عهدة سلطانٍ ديني مستجد، يستولي عليه جنون التاريخ وبارانويا العظمة.

“حبّذا لو وجدتُ حجراً من أحجار بيتنا/ لأجلس عليه/ وأروي قصة حياتي/ قصة حياة مرّت بلا بيت”

(هاموساهيان)

“إن كان النسيان قَدَر الموتى/ فالمجد دائماً أبداً/ لهؤلاء الذين خلفوا في الحياة وهج الذكريات”

(ي. تشارنتس)

“هذا هو وطني وهو بحجم/ يمكنني من أن أصطحبه/ عند ذهابي إلى أمكنة بعيدة/ إذ إنه كالأمّ العجوز/ كالمولود الجديد./ أما على الخريطة/ فهو دمعة واحدة فحسب./ هذا هو وطني، بحجم يمكنني/ من أن أصطحبه في قلبي: كي لا أفقده فجأة”

(هوفهانيس كريكوريان)

… والذين من الأرمن كُتِب عليهم التيه في الأرض، استغرقهم الموت العثماني الذي فنونُه شتّى؛ فبعضه تنكيلٌ وتهجيرٌ وليلٌ وباديةٌ وتجويعٌ ومرض؛ والجمّ الكثيف منه دمٌ كالذي ينسال في نخاع الوجع الكوني، من دون أن تلمع نجمةٌ واحدة لتدلّ الموتى إلى قبور لائقة.

الأرمن الموتى الذين قُتِلوا في العراء، جعلوا من عطش التراب ملحمة، ومن غربة السماء ملحمة، ومن النجوم المفجوعة ملحمة، ومن خجل الله ملحمة.

هؤلاء – يجب أن يصدّق العالم كلّه – كان قتلهم مصادفةً عشوائية، ولعنةً إلهية، وليس محض تدبير سلطاني عثماني، شأن التدابير الهمايونية التي عشنا مفاعيلها وتردداتها طوال نحوٍ من خمسمئة عام.

أما القبور فأخوةٌ، عندما يجمعها العراء، لأن الوقت عندما تزفّ مواعيده لا يترك لأحد أن يأخذ آهته لينتحي بها. والعراء الطلق هو القبر الأعمّ، من أجل أن ترسل العيون شبه المتفتحة عتابها الأبدي إلى حيث الله، حين لا يعود في مقدور الجسد أن يخاطب ذاته ولا الآخرين، بسوى نظرة متلجلجة، كالتي تتطلع إلى السماء لتندم، أو لتنام فيها.

والأرمن في هذا، سبّاقون في كونهم وليمة البيداء. أليست تلك حال الذين منذ العام 1948، طُرِدوا من بلادهم فلسطين، وشُرِّدوا، وتُرِّكوا بيوتهم وأرضهم، وأبيدوا، ويريدنا القاتل أن نصدّق أنهم أبيدوا عَرَضاً، وبمحض مصادفةٍ تاريخية؟

يصل الفحش التركي العثماني إلى حدّ القول ليس من قاتلٍ أباد الأرمن، مثلما يصل الفحش الإسرائيلي الصهيوني إلى حدّ القول ليس من قاتلٍ في فلسطين، كما ليس من قتيل.

في هذا الزمن الأبوكاليبتي، ربما يقترب المشهد الشرقي من استكمال عناصر صورته: بلاد ما بين النهرين تتفكّك عن بكرة أبيها، بمكوّناتها التاريخية والحضارية؛ بلاد الشام تقطف ثمار أربعين عاماً من الاستبداد، إبادةً متنوعة للشعب السوري على أيدي حكّامه الأسديين والظلاميين، وجهَي العملة القذرة الواحدة؛ ولبنان، من أين للبنان أن ينجو، وليس من أحدٍ فيه يصلح ليكون أكثر من مرقّع إسكافيّ فوق هذه الجغرافيا المثقوبة بالأعاصير واللعنات!

يُقتَل القتيل في هذا الشرق، ويُسجَن سجناً مؤبّداً في قبره – وأيّ قبر-، أما القاتل فحرٌّ طليق، يمعن ويفحش ويحاضر في الحرية والعدالة والكرامة البشرية.

لم أجد حياةً رخيصة كهذه الحياة. بلى. حياة الهنود الحمر الذين أبيدوا تقريباً عن بكرة أبيهم، وتحتفل بهم أميركا، “تاج العالم الحرّ”، على طريقتها، بأفلامها المريضة. حياة القارة الأفريقية، وهي مثالٌ في استرخاص الكرامة البشرية. وحياة كلّ هؤلاء الذين يموتون جوعاً أو قهراً أو مرضاً، في كل أرض، في حين أن العالم الأول يرفع شعارات حقوق الإنسان، ويطبّق منها ما لا يتناقض مع مصالحه الآنية والاستراتيجية، وهي كلّها تقريباً مصالح مالية اقتصادية عسكرية لا قيمة للإنسان فيها.

الأمم مصالح وضمائر فاسدة. لكن المسؤولية ليست كلها مسؤولية الأمم. إنها مسؤوليتنا أيضاً، كشعوب شرقية. لكننا، وهذا من أسباب العار، لا نزال نُقاد كالخراف إلى المذابح الجماعية المتكررة، من دون أن نعترض. وعندما يثور أحدنا، كما فعل الشعب السوري قبل أربع سنوات، يُسرَق ويُنهَب، ويُشوَّه، ويُذبَح. وهذه حال ما جرى في فلسطين، وما لا يزال يجري كلّ يوم في لبنان.

في خضمّ المعادلات الدولية والإقليمية القائمة، ربما سيمضي وقتٌ طويل قبل أن نحتفل مع الأرمن، بالتكريم الذي يليق بهم كشعب حرّ، ويليق بموتاهم، بالتزامن مع الاعتراف العلني التركي بجريمة الإبادة المقزِّزة.

قد يمضي وقتٌ طويل، قبل أن يتحقق هذا الحلم، لكن الأرمن شعبٌ لا يموت. فلا الإبادة استطاعت أن تضع حداً لديمومته الحضارية، ولا التهجير، ولا البيداء، ولا الجوع، ولا الليل، ولا المرض، ولا الخوف، ولا التيه. من موته الجمعي، صنع ملحمة أمل ومثابرة وكفاح. شعبٌ كهذا، يستحقّ الحياة الكريمة بكلّ جدارة، ويستحقّ منا الكلمة الحرّة، والتأريخ، والتوثيق، والشعر، والفن، والسينما، وهي أيدينا التي نصفع بها قاتليه، وكل مستبدّ غاشم.

قبل خمسين عاماً، الأحد 25 نيسان 1965، احتفل “الملحق” على طريقته، بذكرى المجزرة الأرمنية. نستعيد هنا لوحة العدد، ونستعيد الغلاف (أعلى الصفحة)، وهما للفنان الكبير بول غيراغوسيان، أحد ورثة ملحمة الإبادة والتهجير، تأكيداً للدور التاريخي الذي يشرّفنا صونه، وتعميق معانيه، واستكمال مقتضياته الثقافية، وتثويرها، بما يتلاءم مع معطيات اللحظة التاريخية والثقافية الراهنة. وتكريماً لروح الشعب الأرمني، ننشر في ما يأتي، مقاطع من رؤيا فاروجان الشعرية (1884-1915)، التي تجسد روح المأساة الأرمنية، كان ترجمها أنسي الحاج، في غالب الظن، ونشرها في العدد نفسه:

عند المساء، عبر الدروب المقفرة/ تمرّ عربة وهي تئنّ/ وحصان أشقر يجرّها/ خلفها يمشي عسكري سكران./ إنه تابوت المذبوحين الذي يتجه/ نحو مقبرة الأرمن/ والشمس تنشر بآخر أشعتها/ كفناً مذهّباً.

* * *

يا يسوع المصلوب/ انتَ الذي ثُقِب قلبه/ اشفق على قلبي المحبّ،/ فهو قد خفق يوماً للعالم/ واليوم، بدلاً من الأمل/ يسكنه العدم./ إن قلبي إناء مليء برمادي/ الذي ستقبض عليه الرياح بعد موتي./ انظر انظر!: هناك خنجر متروك في قلبي./ لقد أحببتُ كثيراً.

* * *

ها هنا اختلطت الجثث فالابن/ مغطى بجدائل أمه/ وآخر غمس قبضته في حرج أمه الحار/ لا أحد يأتي للبكاء عليهم/ أو لتحيتهم آخر تحية/ وفي صمت المدينة وحدها رائحة الدم تنتشر مع نسيم المساء. لكن في العتمة من نافذة إلى أخرى/ ها ان الشموع تضاء/ إنهن الجدات اللواتي يصلين/ فوق النعش الأحمر.

* * *

الرياح تمرّ/ وسنابلي، بكل هدوء، كل هدوء، تفيق./ وعلى مدى التلة الخضراء/ تكرج الموجات./ الرياح تمرّ/ الحقل الخصيب يفور بغضب حتى أن/ الحمَل الذي يرعى فيه سيغرق./ في قلب الوادي المتماوج تكرج الموجات./ الرياح تمرّ/ والرداء السابح على وجه الحقل/ تارةً يتمزق وتارةً يرفأ ملتهباً./ وفي العتمة في النور الصاهل تكرج الموجات./ الرياح تمرّ/ تحت الشعر تموج حبّات بيض/ حيث القمر دلق إناءه الأبيض/ ومن حجار الطاحون إلى القرية ومن القرية إلى الطاحون/ تكرج الموجات./ الرياح تمرّ/ والحقل اللامتناهي يداعب انعكاسات زمردية/ القبّرة تغنّي وهي على ساق ضعيفة تتمايل/ بينما تحت قائمتيها، من كتلة القمح، عصبيةً تمرّ الرياح/ وتكرج الموجات.