IMLebanon

“أرتساخ”… حتى آخر نبض!

 

الشعب الأرمني المقاوم وأحلام أردوغان

 

1915 – 1988 – 2020… تواريخٌ حُفرت بالأحمر القاني في تاريخ الأرمن المجيد، الذين واجهوا بالقلب والعقل والضمير قبل البندقية والرصاص الحيّ كل مخططات إبادة الهوية وهدم الثقافة الأرمنية و”بلع” الأرض وطرد الشعب. وواجهوا من على جبال آرارات الى يريفان وسيفان وشيراك وكابان وتافوش… الى ناغورني كاراباخ… الى آخر نبض…. فهل كُتب على هؤلاء، كما على كثير من اللبنانيين، أن يظلوا يدفعون “باللحم الحيّ” ثمن مخططات مشبوهة وكلفة التعلق بالأرض حتى آخر رمق؟

لماذا قلوب كثير من اللبنانيين مع الأرمن لا مع الأذريين؟ سؤالٌ وُصف بالملغوم. وهناك من راح يغمز من قنوات الطوائف، كما يفعل عادة في لبنان، ويُقسم بين شيعة وسنّة ومسيحيين، وبين كرد وأتراك وروس وإيرانيين، وراح يناكف شمالاً ويكايد يميناً، ويتشفى من المسيحي اللبناني الذي يرى في إيران مشروعاً معادياً ومن الشيعي اللبناني الذي يرى السني مغايراً. فهناك، في ناغورني كاراباخ، تبدلت كل الحكاية، وتلخبطت الإرتباطات، عما نعرفها، فهل معاركنا التي يفوح منها طعم الدين غير معارك ناغورني كاراباخ؟ وماذا عن جرعات العلقم التي يرشفها الأرمني من جيلٍ الى جيل؟

 

المديرة التنفيذية للهيئة الوطنية الأرمنية في الشرق الأوسط فيرا يعقوبيان تنطلق من شكل أرمينيا قبل الكلام عن كاراباخ “فليست أرمينيا هي الجمهورية الأرمينية الحالية، هي أرمينيا الحالية لا التاريخية. أرمينيا تزيد مساحتها بحسب تحكيم وودرو ويلسون عام 1920 عن 130 ألف كيلومتر مربع، أما اليوم فتبلغ أقل من ثلاثين ألفاً، ونحن نطالب بأرمينيا كلها. نحن الشعب الأصلي لتلك الأرض، وغالبية الأرمن كانوا يسكنون في الأناضول قبل الإبادة. كان هناك أكثر من مليون و400 ألف أرمني”. هذا ما أصبحت عليه أرمينيا الجميلة فماذا عن كاراباخ؟ نقلب بين صفحات “السوشيل ميديا” فنرى خطاباً فيه كثير من الكراهية، من أتراك وأذريين، يستعيدون طموح تركيا الجيوسياسي وتطلعها لبسط نفوذها للوصول الى آسيا الصغرى والصين واليابان. هذا هو حلم أردوغان اليوم الذي يعتبر نفسه السلطان التركي الجديد. وها هم هؤلاء، أصحاب الخطاب الحاقد، يرددون “كاراباخ ملكنا وستكون لنا، كاراباخ هي أرض أذربيجان التاريخية. عاشت الأمة التركية. عاش المسلمون. عاشت أذربيجان”. في المقابل هناك من يصرخ “وكيف تركع أرمينيا وهي أول دولة مسيحية في العالم؟”. فهل هذه الصورة الصحيحة؟ هل هو صراع مسيحي- مسلم؟

 

العميد ناريك ابراهيميان، الناشط في الثــــورة اللبنانية، يتابع تفاصيل ناغورني كاراباخ بالصــلاة وبكثير من الإطمئنان. فكيف له أن يشعر بهذا الكمّ من السلام في حين أن كثيراً من الأرمن يواجهون، بالقلب أو بالجسد، أشرس المعارك حالياً في الإقليم؟

 

يقول العميد “الخلاف ليس بيــن مسلمين ومسيحيين، والأرمني بطبعه مسالم، لكن هناك من يصرّ على استغلال الموضوع بوضعه خطأ في إطار الخلاف الديني من أجل شدّ العصبية الدينية بين المسلمين عبر القول ان الحراك الذي يشهده الإقليم هو ضد المسيحي. أما الحقيقة فالتركي نجح في احتلال كل الدول الإسلامية، بعد مجازر، وهو ما نقرأه تاريخياً من خلال المعارك بين الدولة العثمانية والمماليك، لكن بما ان الأرمن هم حالياً على “المصلبية”، أي على تقاطع طريق، يحول دون تنفيذ الحلم التركي الكبير، ويقفون بشراسة في وجهه، فإن وجودهم يفرض على الأتراك تحضير البيئة الخصبة لإنهائهم. فالأرمن، وتحديداً أرمن ناغورني كاراباخ، آخر من يعاندون في وجه ذاك الحلم القديم- المتجدد، وهم مصممون على المواجهة باستبسال قلّ نظيره”.

 

سؤالٌ آخر يدور في أذهان الكثيرين ممن لا يعرفون طبيعة الأرمن “الشجعان” الأقوياء ويغفلون عن “الحلم العثماني الواسع” وهو: كيف للإيرانيين الشيعة أن يقفوا الى جانب الأرمن المسيحيين ضد أذربيجان الشيعية؟ والجواب، برأي العميد، بسيط: “ترى ايران هذا الصراع كوجود استراتيجي، فمصالح الدولة الايرانية هي في منع تمدد الأتراك الذين قرروا اليوم التصعيد، وهو ما أخاف الصين وروسيا ايضاً، وكل الدول الاقليمية الأخرى التي تقف في وجه المشروع الكوراني”.

 

إقتصادياً، الأذريون أقوى من الأرمن، فهناك الغاز والطاقة، وعددياً الأذريون، خارج الاقليم، أكثر بثلاثة او اربعة أضعاف ويملكون السلاح المتقدم الذي يمدهم به من يتطلعون الى اللعب بالمنطقة، لكن الأرمن يملكون، بحسب ناريك ابراهيميان ثلاثة أمور لا يملكها الأذريون. أولاً، الشعب الأرمني يقاتل ليحافظ على الكيان والوجود. وهذا الشعب لجهة المقاومة أقوى. ثانياً، العسكر الأرمني أكثر شجاعة من الأذريين والأتراك، ولو لم يكن الأتراك مدعومين من زمان وزمان، ما كانوا استطاعوا التقدم في ابادة الشعب المستبسل. ثالثاً، الشعب الأرمني أكثر ذكاء ويتحلى بالقدرة على استخدام السلاح الجديد الذي يقدم للأذريين بفعالية أكبر من قدرة التركي والأذري”.

 

الأرمن أكثر ذكاء وقوة واستبسالاً. وهذه الأسرار الثلاثة يعرفها القاصي والداني. لكن، ماذا لو تضافر الكثيرون للقضاء على “أولاد الحق؟”.

 

الوزير السابق الدكتور ريشارد قيومجيان يتابع هو أيضاً تفاصيل ما يحدث هناك، وهو الشاهد على ما يحصل أيضاً هنا، في لبنان، ويقول: «ثمة ترابط وأوجه شبه بين هنا وهناك وأبرزها الدفاع عن الوجود والأرض والقيم والايمان» يضيف «ثمة خلاف تاريخي هناك على بقعة جغرافية كانت تاريخياً جزءاً من المملكة الأرمنية وهذا مثبت تاريخياً وجغرافياً وسكانياً ومن زار منطقة أرتساخ (كاراباخ كما سماها لاحقاً الروس) يتأكد ان 90 في المئة من سكان ذاك الاقليم أرمن وهناك كنائس كثيرة، ما يدل على أن السكان الأرمن لم يأتوا إليها «بالباراشوت» بل كل عمرهم هناك وسيستمرون. لكن، خلال مرحلة الاتحاد السوفياتي، نتجت اشياء ليست دائماً في مصلحة الشعوب. لكن، الثابت، أن الإقليم هو جزء من أرمينيا التاريخية التي ذهبت أراض كثيرة منها في لحظة تاريخية ومؤامرة كونية وتقاطع مصالح».

 

يتحدث قيومجيان عن اتفاقيات جرت عبر التاريخ بينها معاهدة كلستان عام 1804 وعن انهيار الاتحاد السوفياتي واستقلال ارمينيا ومعالم الارض والقرى والعاصمة والخلافات على اقليم أرتساخ… وصولاً الى التدخل التركي اليوم ويقول «أتى هذا التدخل ليرمي الزيت على النار، كجزء من استراتيجية أردوغان في ليبيا واليونان وحوض البحر المتوسط والعراق وحتى قبرص».

 

«هناك، في ناغورني كاراباخ، شاهدنا المقاتلين يركعون ويصلّون والكاهن يباركهم قبل ذهابهم الى القتال. وهذه الصور، على ما قال قيومجيان، طبيعية فحين يشتد الخطر يعود الناس الى الله، الى قوة خارجية روحانية لتساعدهم. والحرب التي يخوضها أرمن كاراباخ اليوم تعتبر وجودية. والمصالح الجيوسياسية تلعب بالمواطنين المسالمين».

 

 

 

نعود الى العميد لسؤاله: هل يملك أرمن كاراباخ السلاح للمواجهة على المدى البعيد؟ يجيب: “في الحروب من يدفع أكثر يربح أكثر. وحين تكثر التدخلات يُصبح هناك ثغرات في بعض المطارح. ويستطرد بالقول: مبدئياً الأرمن استوعبوا الهجوم وصدوه، وحققوا انتصارات كبيرة على الأذريين والمرتزقة. وحين تكون الإندفاعة قوية في وجه المهاجمين تتحقق أولى مسلمات الإنتصار. والثابت أن الأرمن لم يهاجموا بل دافعوا عن الأرض بدليل أن كل القتلى الأذريين وقعوا داخل أرض كاراباخ”.

 

كلام العميد يؤكده كلام الوزير السابق بالقول “ليس أمام الأرمن إلا القتال والدفاع عن أرضهم ريثما تتأتى نتائج عن الإتصالات الدولية”.

 

ماذا عن أرمن لبنان «اللبنانيون- الأرمن»؟ يجيب قيومجيان «كل اللبنانيين الأرمن يتعاطفون في هذه اللحظة مع أرمينيا وأرتساخ. وهناك من يقول: وما علاقة هؤلاء بالقتال في أرتساخ؟ نجيبهم: إنهم مثل اللبنانيين- الأميركيين الذين ينتمون الى الولايات المتحدة الأميركية لكن حين يصاب لبنان بنكسة يتعزز فيهم مجدداً رابط الدم».

 

الصراع كبير اليوم على الموارد الطبيعية وخط الغاز والطاقة والحلم التركي عاد أقوى لكن التصريحات في روسيا وايران والأرمن واضحة: لا نريد الحرب لأنها ستدمر الجميع، وإذا اشتعلت منطقة جنوب القوقاز فستكون الحرب طويلة وتزعج روسيا حليفة الأرمن استراتيجياً وايران التي وقفت دائماً على الحياد هناك، طوال فترة المعارك بين أرمينيا وأذربيجان منذ العام 1988. وبالتالي ليس الدين اليوم هو مكون الأزمة بل المصالح. ومشهدية ناغورني كاراباخ تظهر كل المصالح بوضوح في المنطقة.

 

150 ألف أرمني في أرتساخ اليوم، وهناك مئات من الأرمن بدأوا يتقاطرون الى هناك لمساعدة سكان الإقليم أما الروس فلديهم قاعدة جوية على الحدود مع أذربيجان وفرقة مشاة ومدرعات وبالتالي هذه الحدود هي حدود روسية – تركية و»الملعب معروف».

 

مصالح كثيرة تدور هناك لكن الثابت واحد أن الأرمن لن يسمحوا بإبادة جديدة، وما فعله العثمانيون بهم عاد ليطوف أمام العيون، وهذه المرة بدفعٍ متجدد من الأتراك الذين بنوا مجدهم على جثث الأرمن وعلى أنقاض ثروات الأرمن وممتلكاتهم.

 

قبل أن نضع نقطة وننهي الموضوع نصغي الى صلوات من هناك، من أرتساخ: «باسم يسوع المسيح، إبليس لن يتمكن من أولاد الرب». وإبليس هنا، هم من لا يتورعون عن قتل المسيحي والمسلم تحقيقاً لحلم السلطان أردوغان!