IMLebanon

رئيس جامعة “هايكازيان” القس بول هايدوستيان: الشعب الأرمني لا يعرف الاستسلام

 

 

لا يتركون سانحة إلا ويتذكرون فيها أنهم شعب حياة وقيامة لا موت ونهاية. الأرمن، بعد مئة وستة أعوام على الإبادة، يكررون: قصتنا لن تموت لا بعد 106 أعوام ولا بعد 206 أعوام ولا الى “دهر الداهرين” طالما هناك شعب وقضية ووجدان وطالما هناك صوت صارخ يظل يصدح في كلّ مكان: forget me not. هناك، في جامعة هايكازيان، نُصب يضم وردة بنفسجية مذيلة بعبارة: “كي لا ننسى”… وكثير كثير من اليقين بأن “الحق ما بيموت”… وهناك، شهدنا لمعاناً شديداً في عيني رئيس الجامعة القس بول هايدوستيان وهو يستذكر، في ذكرى الإبادة، أن الشعب الأرمني لم يتسنّ له حينها، لحجم الموت والمأساة، حتى البكاء على شهدائه. “وليس أقسى وأشد من بكاء العين سوى بكاء الروح”.

 

لأن اللون البنفسجي يرمز الى الخلود ارتفعت في حديقة جامعة هايكازيان وردة بنفسجية مشكلةً نصباً تذكارياً للإبادة الأرمنية. نلتفت في كل الإتجاهات. زقزقة عصافير وكتابات لجبران خليل جبران نقرأ منها: المعرفة تكون عقيمة سقيمة إن لم يرافقها العمل. والعمل يكون باطلاً إن لم يقترن بالمحبة”. ونقرأ أيضا: you will know the truth and the truth will make you free. هي المعرفة التي طالما وثق بها الشعب الأرمني في كل الشتات يقيناً منه “أن الأمة التي تتفوق في المعرفة تتفوق في القوة”.

 

فلنغص في 24 نيسان هذا، مع القس بول هايدوستيان، في مئة وستة أعوام من عزّة ومناعة شعب.

 

يُكثر رئيس جامعة هايكازيان القس بول هايدوستيان من استخدام الأمثلة الحيّة الصامدة في العقل والقلب والذاكرة ويقول: “يحبذ بعض الناس التركيز على اللحظة، على مشاكل اللحظة، وهذا خطأ لأن إهمال المواضيع التاريخية وعدم تحميل المسؤوليات يسمح بتكرار نفس المآسي، لا بل تكرارها في شكل أسوأ، لذا لا بُدّ من المعرفة والمتابعة في سبيل تحميل المسؤوليات كاملة الى كل من شارك في إبادة شعب”.

 

يميّز هايدوستيان بين ما قبل العام 1965 وما بعده “فهم الأرمن في الشتات كان بعيد حدوث الإبادة البناء من جديد، حيث حلوا، فبدأوا في فتح المدارس والكنائس والنوادي والأحزاب. عرف الشعب الأرمني منذ البداية أن ذلك يعزز قوّة الشعب الأرمني في الشتات. هذا الشعب الذي لم يكن لديه الوقت للبكاء”، هنا يتذكر القس حادثة لصيقة جداً به “جدي أوهانس كان يلعب دوراً في مرعش كيليكيا في ذاك الزمان، وخسر كثيراً من الأقارب خلال المجازر. خال والدي، وهو رجل دين، قتل أثناء محرقة سميرنا. ويومها اضطرت عائلته الى رميه في البحر لعدم قدرتها على دفنه. لا أستطيع أن أحصي كم من رجال الدين قتلوا في المجازر. وكم تمنيت لو جرى توثيق كل الأحداث التي جرت. خسرنا الكثير من التفاصيل في الفترة الأولى. القس كاسبار قريبنا قتل أيضاً مع زوجته واولاده ذبحاً بالسيف ورميت جثثهم امام بيت الرعية”. مشاهد بشعة كثيرة، مجازر، حقد، موت، إبادة. لذا الشعب الأرمني، صاحب القضية والذكرى والنضال، لن ينسى.

 

القضية الأرمنية قضية ضمير وهوية ووجود ووجدان وليست مناورة سياسية أو استراتيجية. خسر الأرمن بعض التفاصيل في أول خمسين عاماً لكنهم قرروا منذ ستينات القرن الماضي إعادة نبش التفاصيل ويقول هايدوستيان “لم يكن لدى الأرمن رفاهية الوقت للوقوف على الأطلال بل راحوا يجمعون الشتات في قوالب تتمسك بالهوية أولاً رافضين أن يتنازلوا، أمام ديبلوماسيات العالم واستراتيجياته، عن حقوق شعب له ستة آلاف عام مقابل إجرام شعب كوفئ سياسياً” يضيف “آمنا منذ البدء أن قضيتنا ليست سياسية بل وجودية والإنسان قد يخسر أموراً كثيرة لكن الأهم ألا يخسر وجدانه. وهذا ما حصل. فالأرمني قد ينسى تواريخ وأسماء وأشخاصاً وصكوكاً ومستندات لكن وجدانه، الذي هو فيه، في عمق أعماقه، صمد. وها قد قام الجيل الأرمني الجديد بعيد عام 1995 وقال لمن سبقوه: لماذا لم تخبرونا أكثر عما حصل إبان الإبادة؟ أرادت الأجيال الأرمنية اللاحقة تربية الجيل الجديد على هويته الإيمانية والثقافية والتربوية وعلى الأشغال اليدوية والمهارات وعلى الذاكرة أيضاً. وهؤلاء الأرمن أرادوا منذ البدء تكريس السلام والبناء والإبداع والحرية ليس لهم فقط بل في كل مكان حلوا فيه. وهذا كان من خلال تذكير أنفسهم دائماً أبداً أنهم شعب قيامة لا موت. والحياة أقوى من الموت. ومن خلال الإصرار على الحياة سينجحون ذات يوم في إعادة تكريس الحقوق”.

 

الأجيال الأرمنية التي برزت بعد العام 1965 اقتحمت العمل السياسي والمحافل الدولية أكثر ممن سبقوها. وراحت تلملم ما خسرته في أول خمسين عاماً. فماذا خسر الأرمن في البدايات التي تلت التهجير والإبادة؟ يجيب هايدوستيان “خسرنا بعض تفاصيل المآسي وكلنا نعلم أن أي محكمة لا تحتاج الى التعميم بل الى الدلائل. فحين نتكلم عن مليون ونصف المليون ضحية وعن مئات آلاف المهجرين الأرمن في الصحارى والضيع نرى ان درجة التوثيق كانت صغيرة قليلة”، ويستطرد “تركيز الأرمــن في البدايات على تأسيس المدارس والنــوادي الثقافية والكنائس جعلنا نستفيد من الكتب التي صدرت آنذاك. وبعض الكنائس أنجزت أعمالاً جبارة في تدوين الذاكرة. لكن هناك تفاصيل أكثر لم تدون”. ويقول “لم يخبرنا أجدادنا عن الخرائط وعن اعداد القتلى وأسمائهم ولا عن الأراضي التي خسرها الأغنياء والفقراء بل عن الشعر والغناء والثقافة الأرمنية”. هنا تلمع عينا رئيس جامعة هايكازيان وهو يتذكر كيف كان يقف في صفوف المدرسة التي أدارها والده في المينا طرابلس ويتلو وحيداً أبياتاً من شعر فاروج سيفاك. ويتذكر أيضاً أحد الأدراج التي كان والده يحرص على إقفالها واكتشف لاحقاً أن فيها أسماء لأطفال من مرعش يحتاجون الى مساعدة ومبلغ مالي.

 

“أهمية المدرسة الأرمنية كانت غاية في الأهمية. كثيرون قالوا: لماذا نرسل أولادنا الى مدارس أرمنية؟ ولماذا نعلمهم اللغة الأرمنية أولاً؟ لكن سرعان ما اكتشف هؤلاء أن فتح كل مدرسة أرمنية كان يرمز أكثر الى التمسك بالهوية. وإقفال كل مدرسة أرمنية في الشتات معناه أننا خسرنا جزءاً آخر من الأرض. فالمدرسة ليست لنا مجرد حروف وعلامات وشهادات بل هوية. المدارس الأرمنية والنوادي الثقافية لعبت دور الأرض المسلوبة المحروقة والدماء النازفة. هذه قوة الشعب الأرمني التي مكنته ان يقوى وجدانياً وان يحلل بمنظار مختلف. هكذا حولنا المآسي الى نشاط وقوة داخلية تتجاوز كل الحدود. هذه هي المناعة الأرمنية التي اكتسبناها. ومن يملك المناعة سينتصر”.

 

الكلام عن “المناعة” الأرمنية وحرص اللبنانيين الأرمن على مناعة المحيط دفعنا الى السؤال: هل ما يُصيب لبنان اليوم يُقلق من يبحثون في محيطهم عن المناعة؟ يجيب رئيس جامعة هايكازيان: “قوة لبنان في موارده البشرية لا في الأموال” ويستطرد “الخطر أنواع. وأي خطر على لبنان خطر على كل لبناني- أرمني إقتصادياً ونفسياً وإجتماعياً وسياسياً. وما يدور اليوم في لبنان هو البحث الدائم عن التوازنات وهذه ليست تربية”.

 

لا يرغب هايدوستيان في التوغل أكثر بالحالة اللبنانية الشاذة ويقول “جزء من نجاح الأرمني هو محافظته على قضيته ولغته وهويته. هكذا تكون التربية. وأهلنا ربونا على أن نكون إيجابيين من خلال المحافظة على هويتنا وعمقنا التاريخي والثقافي. ومن يفشل في نقل موضوع الهوية والوجدان من جيل الى آخر يختفي معه كل شيء. نحن نجحنا وهذه هي التربية الإيجابية البناءة”.

 

آرتساخ دخلت في وجدان كل أرمني في 2020 و”هذا الموضع مع الأسف دلّ الى نقطة رئيسية ساهمت في ضياع الشتات الأرمني. فالناس انتبهوا فجأة أن أرمينيا لا تملك حلفاء في العالم. هذا الأمر أثر سلباً على نفسية الأرمن في الشتات. هؤلاء دخلوا الى غوغل وبحثوا عن آرتساخ فرأوها تقع جغرافياً، حسب التقسيمات الدولية، في إطار أذربيجان لا أرمينيا. وسمعوا الكثير من جنبات العالم عن إصطفافات وحسابات تعمل على محو التاريخ الأرمني. لكن، على الرغم من كل المشاعر السلبية، انتبه الشتات الى ضرورة تقوية الإنتشار والمؤسسات الروحية والثقافية والكنيسة الأرمنية. وهذه نقطة إيجابية لاحظناها بعد كل التشاؤم الذي تلا أحداث آرتساخ”.

 

قوة الأرمني أنه لا يقبل أن يتهاون ويصرّ على استيلاد الإيجابيات حتى من عمق ما يظنه “العالم” إنكساراً للقضية الأرمنية المحقة. ويعلق هايدوستيان بالقول: “كل شعب يملك قضية محقة وينجح في نقلها، كما هي، الى أولاده، على الرغم من كل الإستراتيجيات والتحالفات، يكون قد نجح في السير بها. فقوة الشعوب تنبع من داخلها. وأقوى سلاح أن يقول كل أرمني: أنا حيّ. والأرمن أحياء ينبضون”.

 

يجمع هايدوستيان المجد من قطبيه فهو قس الكنيسة الأرمنية الإنجيلية ورئيس جامعة أرمنية. فماذا يقول عن ذلك؟ يجيب “لنا كل الشرف أننا على رأس جامعة لا تحمل إسم مموّل بل إسم شهيد هو القس المربي البروفسور أرميناك هايكازيان الذي استشهد في المجازر الأرمنية. وهذا معناه أننا نجحنا في تحويل الشهادة بالدم والموت الى شهادة جامعية. وبالتالي إذا كان العالم يحافظ على أدوات القتل “بالكرافات” (ربطة العنق) فإن شعبنا الأرمني ليس لديه وقت يضيعه في البحث بسياسات الإنكار التي تنتهج عالمياً بل ينهمك في الإحتفاظ بوجدانه وقضيته ونضاله. وكل ما وصل إليه الشعب الأرمني يؤكد أن مجازر الإبادة لم تنجح في إبادة الوجدان الأرمني. فموضوعنا ليس إستراتيجياً بل هو مناعي. والشعب الأرمني يمتلك المناعة التي كونها بالدم والإيمان بأن قضيته لا ولن تموت”.