في الامس كان لبنان يشبه ذاته كثيراً. يحيي مئوية «الابادة الجماعية للأرمن» على ايدي جنرالات «الاتحاد والترقي» والطورانية التركية وريثة الاحتلال العثماني لبلادنا.
لنقل يشبه الفكرة التي بني على اساسها، والهدف الذي قام من اجله، بوصفه ملاذاً للأقليات والطاقات الفردية والجماعات الثقافية المضطهَدة في هذا الشرق.
غالبية البلاد العربية باستثناء سوريا، تغفل هذا التاريخ وتساير السلاجقة والعثمانيين الجدد في انقرة، الذين يرفضون الاعتراف والاعتذار عما ارتكبه بعض اجدادهم من جرائم ضدّ مئات الالوف من الارمن.
«الضِدُّ يُظِهرُ حُسنُه الضِدُ»، فيظهر لبنان مجدّداً حالاً فريدة في المنطقة، وتخرج فيه تظاهرات وتعبيرات وتُقام احتفالات تخلّد المناسبة، في مشهد يؤكد مجدَّداً هذا الدور الخاص المُلقى على عاتق الوطن الصغير، وهو دور ثقافي قبل أيّ شيء، وتعامل فكري مع التاريخ ولعبة الامم.
وبمقدار ما تتيح التجربة اللبنانية للجماعات الحماية والمخبأ من الظلم والقتل والتنكيل. بمقدار ما تطلب منها الانصهار في النسيج الاجتماعي والثقافي ودورته الوطنية. هكذا فعل الارمن القادمون الى بلادنا مطلع القرن الماضي. تعلموا اللغة العربية، واصبحوا جزءاً مؤثراً في السياسة والاقتصاد، واعطوا البلد زخماً حِرَفيّاً وصناعيّاً مختصاً بهم، وها نحن نشهد كلّ يوم على «لبننتهم» بنكهتها الارمنية المحبَّبة.
وجود الارمن في لبنان أضاف بُعداً حيوياً جديداً الى «الصيغة اللبنانية» قرّبها أكثر فأكثر من طموح «الآباء المؤسسين». طموحهم في أن يكون لبنان ارضاً تتسلق فيها كلّ طائفة «جبلاً» وتحتمي من القهر والقتل والاضطهاد. ليس هذا وحسب، لبنان ليس بلد الاختباء والاختفاء، بل إنه بلد تتفاعل فيه هذه الثقافات بعضها مع بعض بنحو ايجابي يخلق «النكهة اللبنانية» الخالصة والفريدة.
يذكر اللبنانيون للأرمن اليوم، انهم لم يشتركوا في الحرب الاهلية اللبنانية كجماعة. ربما شارك افراد من الارمن اللبنانيين في القتال الى جانب الاحزاب المسيحية او الاحزاب اليسارية مطلع تلك الحرب.
أمّا الجماعة الأرمنية او الطائفة او القرار الكَنَسي والسياسي فقد كان ضدّ الحرب التي لم يرَ فيها «الارمن» أنها حربهم ولا لعبتهم ولا طموحهم، لأنّ الوطن الذي دخلوه موحَداً احتضنهم من الشمال الى الجنوب، وتفاعلوا مع مكوّناته بطريقة حيوية جعلت من العنصر «الارمني» في الصيغة اللبنانية محبَباً وضرورياً عند الجميع.
برزت القوة الارمنية الانتخابية في التسعينات، من خلال تحالف قوي مع نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية السابق ميشال المر في المتن، وبعد الخروج السوري من لبنان تأكدت هذه القوة الانتخابية في المتن الشمالي وبيروت وزحلة وغيرها، ما دفع الجميع لأن يخطب ودّها، ويتقرب اليها. وعلى رغم ذلك بقي الارمن واقعيين وعقلانيين في مواقفهم. لديهم رأيهم السياسي وموقفهم من كّل قضايا الداخل والمحيط، لكنهم واظبوا على تقديم هذا الرأي وتظهير تلك المواقف بنحوٍ معتدل غير مستفز ونافر.
يذكر لهم العرب ربما، والفلسطينيون واللبنانيون موقفهم من القضية الفلسطينية ودعمهم لها على قاعدة المظلومية التاريخية التي عاشوها وخبروها كالفلسطينيين، وكذلك من المقاومة اللبنانية إبان حقبة التحرّر الوطني من الاحتلال الاسرائيلي، وبعض الارمن جنوبي يعيش في المدن الجنوبية ولم يغادرها في ذروة الحرب والاحتلال.
بهذا المعنى الارمن لبنانيون نموذجيون. لأنّ ما صنعوه من تفاعل حضاري وثقافي مع محيطهم اللبناني، يمثل أفضل معيار من معايير اللبننة وشروطها.
بدا لبنان امس متصالحاً مع ذاته، عندما اقفلت مدارسه وشاركت غالبيته في إحياء ذكرى «الابادة الجماعية الارمنية»، ليُضاف الى السجلّ اللبناني، تاريخ جديد يوضع الى جانب ما يحفل به لبنان من تواريخ للقتل والعنف والتطرّف واضطهاد الاقليات الثقافية، ومحاولة تدميرها بالحصار احياناً، وبالغزوات المتلاحقة كلّ حين.