عندما أنجز الرئيس سعد الحريري مؤتمر سيدر وأثمر هذا الإنجاز عما يناهز الأحد عشر مليار دولار، من القروض والمنح الإنمائية، تمكّن لبنان من خلالها وهو في عز مأساته الإقتصادية التي كادت أن تودي به إلى جملة من المهالك غير المسبوقة.
فكانت الوهلة الأولى التي أعقبت هذا الإنجاز أنفاس عميقة أراحت اللبنانيين لهذا المؤتمر، وكثيرون منهم لم يقدروا الشروط الموضوعة على لبنان واللبنانيين حق قدرها ومدى جديتها وصرامتها بما فيه تلك الشروط التي ستمسك بمقاليد تنفيذ المشاريع التي ستتولاها الدول المشاركة والمعترضة والمانحة، حفاظا على أموالها وتحسبا لما هو معروف ومعلوم حق العلم من تلك الدول، لجهة سوء الأوضاع والأحوال الإقتصادية والمالية في هذا البلد الغارق حتى قمة الرؤوس والنفوس، «بتراث» تاريخي عتيق، في بحار الفساد وسرقة المال العام، وتكديس أكوام من المال الحرام، الملموم بكل وسائل النصب والإحتيال المبتكرة من ثروات البلاد الضائعة على جميع المستويات المسؤولة، وصولا إلى لقمة العيش واحتياجات المواطنين البسطاء الساعين بشق الأنفاس إلى تأمين حياة كريمة لهم ولعائلاتهم وأولادهم.
وقد شلّتهم أحوال التمزق الطائفي عن أي حراك شعبي شامل ومتكامل ومنتج، يعيد الأمور إلى نصابها الطبيعي كما هو الحال لدى معظم دول العالم المتمدن. لقد مرّ على «سيدر» حتى الآن ما يناهز العام والنصف، وقد أرسلت الدول المشاركة «مفتشين» اقتصاديين وماليين بمستوى وزراء وخبراء وفي طليعتهم أحد السفراء الفرنسيين، بيار دوكين، صاحب التصاريح الناقدة بصراحة عملية وخبروية للأوضاع التي ما زالت سائدة في البلاد، معتبرا هو وغيره من الزوار الدوليين والإقليمين أن الأحوال ما زالت مشرّعة على غواربها للكثير من المآخذ والثغرات، مع اشادة تطييب خاطر، بما تم حتى الآن من جهود طاولت ميزانية العام 2019 ومن جهود أخرى منتظرة ستطاول ميزانية العام 2020، إلاّ أن انتقادات وتساؤلات عديدة تطاول أوضاع كثير من القطاعات وفي طليعتها قطاع الكهرباء، الذي ما زالت كثير من المراجع الدولية والمحلية المؤثرة، ترى فيه نموذجا يقتضي إيلاؤه مزيدا من التوجهات والتصويبات الإصلاحية التي تزيل عنه وعن كثير سواه من القطاعات ( المرافيء المطار، الأملاك البحرية، الممرات الحدودية… ألخ )
ما يحيط به حتى الآن من تساؤلات واتهامات ومآخذ، تسهم جميعها في تطليخ سمعة الجهود المبذولة لإنقاذ مقررات سيدر من جملة من «الحروب» التي ما زالت تتابع مهاراتها في اقتناص مال الوطن والمواطنين. إن الجهود التي يتولاها ويبذلها الرئيس الحريري لإنقاذ الوضع الإقتصادي من أحواله المزرية ما زالت تواجَهُ مع الأسف بجيوش ممانعة من المتضررين التاريخيين والمستحدثين من سيادة الأوضاع السائبة بعيدا عن العيون المراقبة كائنا ما كانت أنواعها وأشكالها وانتماءاتها، وأكثر هذه الجيوش خطورة وأثرا سلبيا على أوضاع البلاد وعلى مؤتمر سيدر وعلى نتائجه العملانية، هي تلك المنتمية إلى الداخل خاصة منها تلك التي لا تبالي باستمرار صرف الأموال الطائلة على جملة من مواقع الصرف المتجاوزة لكل جهود لملمة مصاريف الدولة، كتلك التي ترافق بعض كبار المسؤولين في صولاتهم وجولاتهم ومنها ما يبتغي التوظيف المصلحي في متطلبات زعامات وطموحات محلية، يمكن اختصارها إن كانت ذات طابع عام إلى اقصى مدى ممكن.
جرياً على ما هو الحال في ما تمّ وقد يتمّ في جملة من المشاريع والمؤسسات العامة والجبايات الجديدة واختصار جملة من المصاريف والإلزامات التي تمس لقمة عيش المواطن واحتياجاته الأساسية التي تعاني في هذه الأيام المظلمة، من جملة من المتاعب والأخطار، وتتناول سلامة أوضاع الشأن العام والسلم الإجتماعي مهددا جموع اللبنانيين بما لا يحمد حاضره ومستقبله وعقباه على نحو ما بتنا نلحظه بوضوح تام في ما تعمد إليه جموع هامة من محلاتنا ومؤسساتنا التجارية، إلى الإقفال وصرف الموظفين والعمال، وفقدان العاملين والموظفين من المؤسسات الخاصة لأعمالهم ومصادر رزقهم، وتوجه كثيرين من المواطنين خاصة الشباب منهم، نحو مسالك وسبل الهجرة إلى بلدان الله الواسعة بعد أن ضاقت سبل العيش الكريم في وجوههم وسدت أمامهم كل المعابر نحو مستقبل آمن ومطمْئِن.
منذ ما يناهز العام والنصف على انجاز مؤتمر سيدر لم نعد لنفاجأ بأية سلبيات قد تواجهنا ونحن ما زلنا نغرق في بحر الضياع الإقتصادي والمالي بشكل متراجع وغير مسبوق، ورغم كل ذلك، ما زال كثيرون يصبّون آمالهم على جهود الرئيس الحريري الإقتصادية في نطاقات المجتمع الدولي، وما أشد ما لدينا من تخوف وتحسب من جيوش هؤلاء المتضررين التاريخيين والمستحدثين وما أكثرهم.