لا شك أن بيان السفارة الأميركية في شأن أحداث الجبل سرّع في المصالحة التي عُقدت في قصر بعبدا يوم الجمعة الماضي وأدت الى معاودة مجلس الوزراء لإجتماعاته التي غابت لأكثر من شهر، وتزامن البيان مع استعداد رئيس الحكومة سعد الحريري لزيارة واشنطن.
وبات واضحاً أن السياسة الأميركية لم تتغيّر، إذ إن الأميركي يرسم خطّاً إستراتيجياً بالنسبة إلى سياسته تجاه “بلد الأرز” وهي لم تتبدّل. وبدأ الأميركي تعاطيه المباشر مع لبنان منذ سحبه للتفويض الذي كان منحه للنظام السوري بعد “إتفاق الطائف” والذي مارس النظام من خلاله وصايته على لبنان، وكان لإغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري الوقع الأكبر، فبعده انسحب الجيش السوري وبدأت مرحلة جديدة من التعاطي ودخلت الإدارة الأميركيّة في صلب التعامل المباشر مع لبنان.
ويؤكد مطّلعون على الموقف الأميركي أنه ليس صحيحاً أن واشنطن تركت لبنان لإيران وسوريا و”حزب الله”، فهي موجودة بقوة وتستطيع التحرك ساعة تشاء وتحريك اللعبة. وفي توصيف للواقع فإن واشنطن قد بدأت منذ “غزوة” عرسال الإرهابيّة في 2 آب 2014 مساعدة لبنان وتسليح جيشه بشكل واضح وغزير، وتُقدّر المبالغ المصروفة للجيش بمئات ملايين الدولارات، ويُعتبر مسار الهبات الأميركية منفصلاً عن العقوبات على “حزب الله”.
وقد وصلت في المرحلة الأخيرة ست طائرات من دون طيار من واشنطن إلى لبنان، إضافة إلى صواريخ ذكية موجهة بالليزر تزيد قيمتها على 16 مليون دولار.
ويوم الأربعاء الماضي، وبالتزامن مع وجود الحريري في واشنطن، أعلنت قيادة الجيش أن اللواء اللوجستي تسلّم عبر مرفأ بيروت، 150 آلية هامفي مدرّعة مقدّمة هبة من السلطات الأميركية، ضمن برنامج المساعدات الأميركية المخصصة للجيش اللبناني.
وتشير أوساط دبلوماسية الى أن التسليح الأميركي للجيش يأتي ضمن خطة إستراتيجية، إذ أن تسليح بعض الدول أيضاً للجيش مثل بريطانيا، لم يكن ليحصل لولا دفع الولايات المتحدة الأميركية في هذا الإتجاه خصوصاً أنه معروف أن خطوطاً حمراء كانت تُرسم سابقاً بوجه الخطوات التسليحيّة.
وتؤكد الأوساط أن واشنطن رسمت خطاً أحمر وهو منع العبث بأمن لبنان واستقراره، وتُرجم هذا الأمر بإبقاء لبنان آمناً طوال السنوات الماضية، في حين اشتعلت المنطقة من حوله واجتاح تنظيم “داعش” الإرهابي نصف العراق، ودخلت سوريا في حرب مدمّرة لم تنته فصولها بعد.
ويأتي إنشاء مباني السفارة الأميركية الجديدة في عوكر، وهي أكبر سفارة في الشرق، كخطوة تؤكد أهمية لبنان بالنسبة الى واشنطن، خصوصاً أن تكاليف بناء هذه السفارة تخطّت المليار دولار أميركي، لذلك فإن واشنطن لا تشيّد مثل هكذا سفارة وتدفع الأموال في أرض ملتهبة، بل إنّ الإستقرار والأمن أمران مطلوبان لحماية طاقم عمل السفارة.
وتؤكّد الأوساط المتابعة أنه مثلما رسمت واشنطن خطاً أحمر تجاه الجيش اللبناني، فإن المصرف المركزي أيضاً بالنسبة إليها هو خط أحمر ولا يمكن ضربه، لأن هذا الأمر يؤثر في إستقرار لبنان النقدي، وبالتالي فإن الجيش والمصرف المركزي يحظيان برضى أميركي.
وتشير مصادر وزارية إلى أن واشنطن تحاول التوفيق بين العقوبات على “حزب الله” وحماية إستقرار لبنان نقدياً وأمنياً، ويبدو جلياً أن العقوبات على “الحزب” ستزداد وطأتها، لكن من دون أن تؤثر على القطاع المصرفي اللبناني. وتعلم واشنطن مدى الضغط الكبير الذي يواجه الإقتصاد اللبناني والضغط الأساسي الذي يقع على المصرف المركزي. وبالتالي لن تقدم على خطوات تُسّرع عملية الإنهيار الاقتصادي، بل إنها تدعو الى إصلاحات من إجل إنقاذ الوضع وعدم الإتجاه نحو الأسوأ.
وتؤكّد المصادر نفسها أن الحكومة اللبنانية عليها أن تراقب إتجاهات السياسة الاميركية في المنطقة ولبنان، والنظر إلى المدى الذي ستبلغه العقوبات على إيران و”حزب الله”، مع أن كل المؤشرات تدلّ على أنها ستكون خطوات تصعيديّة.
وترى أنه يتوجّب على الحكومة العمل للتخفيف من وطأة العقوبات، وأن لا تطال القطاع المصرفي أو أي قطاعات أخرى مؤثّرة. وتلفت إلى أنه يجب إنتظار عودة الرئيس الحريري من الولايات المتحدة لمعرفة المدى الذي ستبلغه السياسة الاميركيّة تجاه لبنان والمنطقة، إذ إنه لا يمكن الفصل بين الملف اللبناني وملفات المنطقة الملتهبة.