والآن، بعد تسعةِ أشهرٍ من القتال والنزال وتعريض قطاع غـزّة للزوال، قالوا: إنّ هناك خدعةً إسمها هدنـة، تخلَّـت حيالها حركةُ حماس بفعل الضغط، عن شرط الضمانات الأميركية المكتوبة لوقْـفِ الحرب، واكتفَتْ بضمانةٍ شفهيةٍ هي أشبهُ بضمانةِ تبرئـةِ الذئب من دم يوسف.
ولكن، أيُّ قيمة قانونية لوثيقة أميركية مكتوبة تتـمُّ بين دولة وحركة، وما دامت الولايات المتحدة لا تزال تعتبر هذه الحركة منظّمة إرهابية.
إلاّ، أنْ تكون هذه الهدنـة كمثل اتفاق الهدنة الذي وُقِّـعَ بعد الحرب العالمية الأولى في معاهدة «فرساي»، والذي يَعَتبِـرُ الدول في حالةِ حـرب إلى أنْ يتـمّ توقيع الصلح.
كيف يفسّر الخبراء العسكريون عقدةَ المفاوضات حـول الطرْحِ المتناقض المركّب الذي يُعلنه «نتنياهو» بأنّ وقـف النار لا يعني وقـف القتال قبل القضاء على الوجود العسكري والوجود السلطوي لحركة حماس في غـزّة، وما دام الجيش الإسرائيلي قد أبلغَ القيادة السياسية بأَنّ القتال ضـدّ حركة حماس سيستمرّ لسنوات …؟
حتى لا ندخل في جدليَّةِ الإفتراضات نستخلص:
أولاً: إنّ إسرائيل باتت تبالغُ في الظـنّ أنّ الأرض المحروقة في غـزّة لم تعد تشكّل لها قلقاً عسكرياً في المدى الأبعد، متسلّحةً بالزاجر القائل: إنَّ أيَّ طوفان غـزّاوي مستقبلي قد يؤدي مـرةً جديدة بغـزّة إلى أرض محروقة إذا ما أُعيـدَ إعمارُها.
ثانياً: إنّ ما يُقلق إسرائيل هي الجبهة الشمالية مع لبنان والتي قد يكون خطرها الآني والمستقبلي أشـدَّ هولاً عليها بما يرتقي إلى تهديد أمنها الوجودي، وإنّ هذه الجبهة أصبحت جـزءاً أساسياً من الصراع بالنسبة إلى قضية العرب الأولى.
ثالثاً : إنّ الولايات المتحدة، عـدا عن هذا التلاصُق الإستراتيجي التاريخي بينها وبين إسرائيل، لا يمكن إلاّ أن تكون شريكاً عملانياً في أيِّ حـربٍ تخوضها إسرائيل، ولا يمكن أن تستغني عن هذا الشرطي الأميركي في المنطقة، في ظـلّ ما يسود فيها من منظمات عسكرية متنامية، من شأنها أنْ تعرّض النفوذ الأميركي للإهتزاز والمصالح الأميركية والغربية لزعزعةٍ أمنية واقتصادية معاً.
رابعاً: إنّ تضخُّم الوجود العسكري لحركة حماس، إنْ هو يشكّل حالةً إرهابية بالنسبة إلى العالم الغربي، فهو لا يتمتّع بدعـمٍ عربي بفعل خلفيَّـة انتماء الحركة العقائدي، وارتباطها الإقليمي، وانفصالها عن منظمة التحرير، لدرجة أنَّ رئيس السلطة الفلسطينية يعتبر أنَّ ما قامت بـه حماس في غـزّة يكاد يشبه نكبة 1948.
خامساً: ليس علينا الآن أن نقوم بعملٍ إحصائي يحـدّد حجم الخسائر بين هذا الجانب وذاك، وقد بلغت مستوىً غير محدود الحجم وغير محدود المـدى، ولا سيما على الصعيد الفلسطيني… حسْبُنا أن نتوقَّـف عند القول الذي تناقلَتْه الجيوش عن نابوليون، وهو أنّ الساعي إلى الحرب إنْ لم يحدّد قدرتَـهُ على الإنتصار بما يفوق الخمسين في المئـة فهو يسعى إلى حتْفِـهِ.
سادساً: إذا كان الرهان على إزالة إسرائيل من الوجود، يستدعي إزالـةَ الولايات المتحدة من الوجود… وحتى يقضي الله أمـراً كان مفعولاً… فلا بـدّ من أنْ تتوحّد الأجنحة الفلسطينية في تراصف صفوفها وحصرِّية نضالها، مستفيدةً من المكاسب التي حقَّقتها القضية الفلسطينية بالـدم، على صعيد أرقى المنظمات الدولية وشعوبها.
فإذا لم تتكلّل التضحيات الجسام بالسعي الجهيد لإقامةِ الدولة الفلسطينية المستقلّة مهما حـال دونها من صعاب، فقد تظلّ القضية الفلسطينية مكلّلةً بالشوك على طريق الجُلْجلة، وليس هناك مسيحٌ جديد يُعلَّقُ على صليب اليهود ليؤمِّن لها ولنا الخلاص الأبدي.