IMLebanon

السلاح والقمح

ـــ ١ ـــ

لم يجد فلاديمير بوتين هدية لمضيفه المصري عبد الفتاح السيسي أقوى في دلالتها من الـ «كلاشينكوف».

هي ذروة الشحنات الرمزية التي أتخم بها اللقاء، قصداً أو حماسة أو هما معاً، ربما لملء فراغ تتركه خلفها سيولة العلاقات الإقليمية والدولية في منطقة أصبحت تشبه «الثقب الأسود».

التخمة الرمزية اعتمدت على نوستالجيا مهجورة منذ سنوات، وعلى ما قد تحمله الزيارة من رسائل إلى واشنطن بالتحديد إلى تنوّع مصادر «الارتباط» الذي يعني حرية الحركة بعيداً عن الالتزامات الثقيلة في التحالف أو التفاهمات التي تحكم بها أميركا خطوط السياسة الدولية، والحركة التي تعني لروسيا الإفلات من تأثير العقوبات على هجومها على أوكرانيا، فإن هذه الزيارة تعتبر بالنسبة لمصر مرحلة من مراحل «الشد والجذب» في علاقتها مع أوباما في أيامه الأخيرة.

أوباما ما زال متردداً في حربه على «داعش»، وهو ما يخلق «سيولة» في إطار الحرب، وتهديداً لأنظمة لا تستطيع وحدها مواجهة ميليشات «الأممية الإسلامية»، التي تراكمت الآن لتحتل جيوباً وسط دول في لحظة تشظٍ مذهل، لتؤهَّل للدخول في «الموديل النيجيري» حيث الدولة موجودة حافظة لخطوط سير الإجراءات الرسمية، وراعية للجريمة المنظمة، بينما يفرض «بوكو حرام»، أقوى تنظيمات آكلي الدول، سطوته وهيمنته على جيب من جيوب الدولة.

والموديل المستقر في واحدة من أكبر دول أفريقيا، تبدو له طبعات في بلاد تحاول الأوهام فرض واقعيتها عليها، ويهندس الخوف عالماً جديداً يغيب فيه القانون و تبقى الدولة في هياكلها راعية للخراب.

ـــ 2 ـــ

… وفي هذا الخراب يمتدح القتل كعامل استقرار.

«داعش» تقتل وفق قانونها وبقوة احتكارها للسكاكين والنار، ويهلّل جمهورها بأن هذه علامات على طريق استعادة الدين الغريب. وعلى الجهة المقابلة لا شيء في مواجهة «داعش» إلا المطالبة بـ «الثأر» منها أو كما قالت بيانات أزهرية «تنفيذ حد الحرابة»… لم يجدوا في العصر إلا العودة إلى قيم العنف القديم.. كما أن كلاشينكوف بوتين هو رمز تعدّد مصادر السلاح، برغم أن الزيارة لن تنتهي إلا بصفقة محدودة للأسلحة و5 اتفاقات اقتصادية تعتمد على توسيع صادرات روسيا الى مصر، وفي المقابل تعاون في إتمام المشروع المصري المؤجّل بإقامة محطة الكهرباء التي تعمل بالطاقة النووية، إلى جانب وعود بمنطقة صناعية في قناة السويس الجديدة، واتفاقات إضافية بتوريد حصة أكبر من القمح.

والرسالة إلى واشنطن هنا هي إلغاء التبادل النقدي بين مصر وروسيا بالدولار، وهي رسالة تتوازى مع طموحات السيسي من المؤتمر الاقتصادي في الشهر المقبل والمدعوم حتى الآن غربياً، وتحديداً من أميركا التي تريد حسب رؤى أصحاب القرار المتعلق بمصر المساعدة في عبورها من «العتمة» الاقتصادية المتوقعة في حزيران المقبل، والمؤتمر مدعوم ثانياً من جناح في الاتحاد الأوروبي، حيث تدير المؤتمر شركة علاقات عامة شهيرة (تديرها سيسيليا طليقة الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي)، وهي نفسها التي أشرفت على مؤتمرات سابقة لنظام مبارك.

ـــ 3 ـــ

القمح والسلاح… علاقة ليست جديدة.. لكنها اليوم تصاغ من أجل تثبيت أنظمة تعيد بناء نفسها في لحظة تفرض فيها ميليشيات آكلي الدول ذاتها عليها، كونها في حرب على «احتكار حق القتل»..

وليس صدفة أن يصل بوتين القاهرة عشية مذبحة الإستاد التي قتل فيها 22 مشجعاً من مشجعي نادي الزمالك، ذهبوا خلف شغفهم يبحثون عن المتعة، لتكون عودتهم إلى المدرجات دليل «استقرار» النظام، لكنهم فوجئوا بطقوس تنظيم الدخول الى الملعب على شكل ممر الموت، حيث لا بد أن يتزاحم المئات بل الآلاف في أقفاص حديدية قبل الدخول، ومع الزحام، أطلقت قوات الأمن قنابل الغاز، ليموت المتيّمون باللعبة على بوابات الملعب.

استمرت المباراة برغم الموت الجماعي، وكأن المقتولين مخلوقات مرعبة، تمثل خطراً على «استقرار» الدولة، والمنظومة الرياضية والأمنية…، وتسرّبت في أجهزة إعلام تتحرّك بأوامر عليا معلومات تقول إن المذبحة تمت لتعطيل مسارات السيسي، والتشويش على محاولاته العبور من نفق الأزمات.. وعباقرة نظرية المؤامرة دلّلوا على صدق روايتهم بأن المذبحة كانت قبل ساعات من زيارة بوتين.

هذه الخطابات الإعلامية تنشر خطاباً خفياً في «مديح القتل»، يبرّر الانتقام، ويجعله من أساسيات «إعادة الدولة المنهارة»، وكأنه خطاب الضرورة المصاحب لهذه العودة.

هل يعرفون ماذا يعنيه تسييد «مديح القتل»..؟

يعني أول ما يعنيه: انتصار «داعش».. التي يمثل القتل سرّ وجودها.

ويعني ثانياً: أن كل محاولات الخروج من الأزمة ليست لحل مشاكل المعيشة أو دفعاً للاقتصاد، ولكن لإسكات الذين روّضهم القتل.

أما أهم ما يعنيه فهو أن المشكلة ليست في الأزمات الاقتصادية أو السياسية، ولكن في «العلاقة» التي بين الدولة والناس أو المجتمع والحاكم، وهل تقوم على «الحياة» أم على قداسة غامضة لكيان الدولة؟ هل تقوم على احترام الفرد وحرياته وحقوقه وتضعه في أصل المشكلات أم تراه جزءاً من قطيع تروّضه المجموعة الحاكمة؟

الخلل في هذه «العلاقة» التي تقوم على محاولات فرض الأوهام لنشعر بواقعيتها… تلك الواقعية المشبعة برموز علاقة مريبة أخرى بين السلاح والقمح.