يبدأ غداً دوران جديد للحوار الوطني حول الرجال أنفسهم، كما حول ملفات لم يتغيّر معظمها منذ عام 2006، وإن ميّز الرئيس نبيه بري بين ملفات الخارج حينذاك وملفات الداخل الآن. وهو أعلم العارفين بتداخل هذا بذاك
تسابق التوقعات والتكهنات الجولة الأولى من الطبعة الثالثة للحوار الوطني في أقل من عقد من الزمن: أولاها عام 2006 في مجلس النواب، ثانيتها عام 2008 في قصر بعبدا، ثالثتها المتوقعة غداً في مكان كان لا يزال، في الساعات المنصرمة، يترجح بين ساحة النجمة وعين التينة. أمس عقدت اجتماعات عسكرية ــ أمنية للبحث في المكان الملائم لوصول رؤساء الكتل النيابية المدعوين، لكن الأقل شغباً وإقلاقاً.
تردد أن عين التينة مقر متاح لالتئام الحوار الوطني، لوجوده في طوق أمني مماثل للطوق الأمني في محيط ساحة النجمة. بيد أنه لا يتصف، كإحدى ساحتي رياض الصلح والشهداء، برمزية احتجاج المجتمع المدني. بل تكاد هاتان الساحتان تليقان بالإعتصامات. عُزي الخوض في خيار بديل محتمل من ساحة النجمة، الواقعة في منتصف الطريق بين الساحتين الاخريين، الى إحتمال محاولة حركات المجتمع المدني الإقتراب من مبنى مجلس النواب، ما يعرقل وصول المدعوين أو يعرّضهم لمضايقات، فضلاً عن مخاوف من افتعال أعمال شغب واضطرابات على غرار ما رافق الإعتصامات منذ 29 آب. تالياً ممارسة ضغوط مباشرة على حوار أفرقاء يقف المعتصمون على طرف نقيض منهم، ويوجهون إليهم أصابع الإتهام.
يتصدّر القلق من إفتعال أعمال شغب حسابات الجيش الذي يتصرّف على أنه المعني المباشر بالإستقرار ومنع الإخلال به، مقدار تمسّكه بأن يكون في منأى عن فحوى الإعتصام ووسائله وأهدافه. مع ذلك، لم يسلم من إنتقادات طرفي الإشتباك: المعتصمون يريدونه إلى جانبهم كي تكتمل حلقة الإنقلاب على السلطة السياسية، وهو الدور الذي لا يسع المؤسسة العسكرية الإضطلاع به ولا هي مدعوة إليه حتى، والمسؤولون السياسيون والوزراء شكوا ممّا عدّوه تقصير الجيش في حماية وزارة البيئة.
على أن مرجعاً مسؤولاً في المؤسسة العسكرية يشدّد على أن الجيش ليس في واجهة الإعتصام، وليس معنياً بأن يكون وجهاً لوجه مع حركات المجتمع المدني. إلا أنه حدّد خطوط حظر لا يسعه السماح لأي أحد بتجاوزها:
أولها، حماية المؤسسات والمنشآت الرسمية، واخصها مقار الشرعية الدستورية وتحديداً السرايا الحكومية. في إعتصامات الأسبوعين المنصرمين قضت تعليمات القيادة لوحدات الجيش في ساحة الإعتصام بمنع إقتراب أي من المتظاهرين وإن متراً واحداً الى وراء الأسلاك الشائكة. إقترنت تلك التعليمات بأوامر باستخدام الوسائل المتاحة ــ اللين أو القوة إذا إقتضى الأمر ــ متى حاول معتصمون الإقتراب من السرايا. وخلافاً لقوى الأمن الداخلي، لا يشغل الجيش مقدّم خط التماس مع المتظاهرين والمعتصمين، ولا يُدعى إلى التحرّك إلا للمؤازرة.
ثانيها، الجيش ليس طرفاً في الإشتباك السياسي الدائر بين حركات المجتمع المدني والسياسيين، وهو تالياً ليس في واجهة الحدث إلا بمقدار ما يبدو مسؤولاً عن فرض الأمن ومنع التجاوزات. يقول المرجع المسؤول إن معركة الجيش هي في عرسال وفي كل مكان مشابه، لا في ساحتي الشهداء وساحة رياض الصلح. أعداؤه المباشرون هم الإرهاب والحركات التكفيرية، لا المواطنون أصحاب الحق الدستوري في حرية التعبير عن الرأي والاحتجاج. ليس مدعواً إلى حماية الإعتصام والتظاهر، وهي مسؤولية قوى الأمن، لكنه صاحب اليد الطولى في منع خروج الإعتصام والتظاهر عن طوره السلمي والسياسي.
ثالثها، لا يمكن التعامل مع الجيش على غرار قوى الأمن، وإن كانا يلتقيان على تحمّل مسؤولية فرض الأمن والمحافظة على النظام العام. في الغالب قوى الأمن أكثر إقترابا من الناس وتماساً معهم، بينما للجيش مهمات تخضعه لتدريب شاق وتأهيل لا تماثله المؤسسات العسكرية والأمنية الأخرى، فضلا عن أن أدوات إستخدامه دوره وتنفيذه مهماته تجعل تأثيره أكثر كلفة. أضف أن هيبته مصدر فرضه إحترامه وقوة معنوياته. لذلك ــ يضيف المرجع المسؤول في المؤسسة العسكرية ــ لا يتسامح مع أي أعمال شغب أو محاولة الإعتداء عليه. الأوامر المعطاة له في حالات مماثلة تجعله لا يكتفي بالدفاع عن النفس فحسب، بل المحافظة على مهابة دوره.
رابعها، يراقب الجيش بانتباه وإهتمام حركة الإعتصامات ونشاطات المجتمع المدني، وخصوصاً بعدما رافقت سلسلة الإحتجاجات الأخيرة في ساحتي رياض الصلح والشهداء أعمال تعمّدت التخريب والشغب والإيذاء في محاولة لتشويه أهداف الإعتصامات تلك. المشاغبون هم تحت أعين الجيش، مقدار متابعته عن كثب تحرّك المجتمع المدني ونجاحه في أن ينأى بنفسه عن التجاوزات والإخلال بالأمن وإساءة إستخدام الوسائل، بتوسّل العنف تارة والتغافل عن أولئك الذين يتعمّدون توريطه طوراً.