على رغم أنّ الجيش اللبناني لم يتصدَّ للمتظاهرين الذين أمّوا ساحة الشهداء في 14 آذار 2005 وصنعوا أهمّ محطة في تاريخ لبنان، إلّا أنّه لم ينجح في تبديد الانطباع القائم لدى هذه الشريحة بأنّه لم يَعبر معها نحو الاستقلال الثاني.
العلاقة بين 14 آذار والمؤسسة العسكرية كانت تفتقد إلى الحرارة السياسية، على رغم أنّ أحد أبرز مرتكزات المشروع السياسي لهذه القوى حصريةُ السلاح بيَد الجيش اللبناني، وأمّا غياب الحرارة فكان مرَدّه لعوامل عدّة، أبرزها الآتي:
أوّلاً، الاعتقاد الخاطئ بأنّ عبور البلد وجزء من القوى السياسية من مرحلة إلى أخرى يفترض أن ينسحب على المؤسسة العسكرية، عِلماً أنّ عبور هذا الجزء تحديداً من القوى السياسية يتطلب أقلّه خمسَ سنوات من التحوّلات البطيئة التي ترجِمت في 14 آذار 2005 بعد اغتيال مدَوٍّ لأبرز شخصية سنّية في العصر الحديث، وبالتالي لا بدّ من أن يأخذ هذا التحوّل وقتَه أيضاً على مستوى المؤسسة العسكرية.
ثانياً، مِن البديهي أن يكون التحوّل العسكري أبطأ من التحوّل السياسي، نظراً للاختلاف بين الطبيعتين العسكرية والسياسية، خصوصاً أنّه لا يفترض استسهال تأثير الوصاية السورية على امتداد خمسة عشر عاماً، وبالتالي المدخل للتغيير يتوقّف على عاملين أساسيين: الوقت وميزان القوى.
ثالثاً، عدم إيلاء 14 آذار الاهتمام الكافي بهذه المؤسسة من خلال نسجِ علاقة بنيوية معها ومع كلّ المفاصل داخلها تتجاوز الإطار الشكلي الذي كانت عليه.
رابعاً، ميزان القوى السياسي الفعلي هو الذي يجعل أيّ مؤسسة تقف على مسافة واحدة بين اللبنانيين، وبالتالي تركيز ١٤ آذار يجب أن ينصبّ دائماً على كيفية الحفاظ على عناصر قوّتها وترسيخها وتطويرها وتدعيمها.
خامساً، تحديد واقعيّ للمهمّة المطلوبة من الجيش اللبناني: فليس مطلوباً إطلاقاً وضعُ الجيش في مواجهة «حزب الله»، إنّما أن يحمي الجيش 14 آذار من الحزب، ويمنعه من استخدام سلاحه في الداخل، لأنّ الحزب معادلة إقليمية، لا محلّية، وبالتالي حلًّها يتطلب ظروفاً خارجية.
ولكنّ الثغرة الأساسية في ما تقدّم أنّ «حزب الله» لم يكن يعترف بميزان القوى القائم والذي يَعتبره من طبيعة سياسية يقدر على قلبها في أيّ لحظة، الأمر الذي حال دون تسهيل المهمة على الجيش، غير أنّ هذا الوضع سرعان ما تبدّل مع الأزمة السورية، حيث أدركَ الحزب مدى عمق التحوّل الذي أصاب البنية السنّية في لبنان والتي أظهرَت قابلية كبيرة لمناخ التطرّف في ظلّ الاستهداف المبرمج الذي تتعرّض له، ما دفعَه إلى إعادة النظر بسياساته تجنّبا لسورَنة لبنان، فاستعاد «المستقبل» دورَه، وبات الحزب أكثرَ حرصاً على ميزان القوى القائم الذي كانت أولى تجلّياته دعوته لأخصامه في لبنان إلى قتاله في سوريا وليس على الأرض اللبنانية.
وفي موازاة ذلك، وتجنّباً لجَلد الذات، لم يكن باستطاعة «المستقبل» أن يوفّر الغطاء اللازم للجيش وهو خارج السلطة، لأنّ التطرّف كان سيُسقِط الاعتدال السنّي بالضربة القاضية، فيما نجَح بعد عودته إلى السلطة في إعطاء الضوء الأخضر للجيش، خصوصاً أن لا مصلحة للطائفة السنّية بالتسلّح ولا تبرير هذا التسلّح تذرُّعاً بـ«حزب الله»، لأنّ ما رفضَته 14 آذار مجتمعةً في العام 2005 لا يمكن أن يوافق عليه «المستقبل» منفرداً، فضلاً عن أنّ أيّ تسَلّح يعني نهاية «المستقبل» نفسه، كونه في غير وارد قيادة ميليشيا، ومجرّد قيام مشروعين مسلّحين يعني أيضاً انتقال العنف إلى لبنان.
ومن هذا المنطلق كان مفهوماً ما يقوم به الجيش من خلال غضّ النظر عن سلاح «حزب الله» مقابل التشدّد مع الأفراد والجماعات السنّية، لأنّ غضّ نظرِه على هذا المستوى أيضاً كان سيسَهّل الانجرار نحو حرب مذهبية، فيما موضوعيا لا يمكنه منع الحزب من نقل السلاح بين لبنان وسوريا، كونه يتعامل مع الوقائع الموجودة منذ ما قبل الطائف وبعده نتيجة سورنةِ هذا الاتفاق، الأمر الذي يختلف مع الظواهر الجديدة التي يتشدّد معها قطعاً للطريق أمام الانزلاق إلى حرب أهلية.
وقد ساهمت عوامل عدة في ردمِ الهوّة بين الجيش والبيئة السنّية، أبرزُها الخروج السوري وعامل الوقت وارتفاع منسوب المشاعر المذهبية وقيام ميزان قوى حقيقي داخلي وإقليمي وعودة «المستقبل» إلى السلطة والرعاية السعودية الاستثنائية للجيش.
هذا من جهة الشارع السنّي، أمّا من جهة الجيش فشكّلَ تعامل قيادته مع قضية عرسال محطة أساسية في إعادة اللحمة بين الجيش والشارع السنّي، حيث أظهرَ أنّه لا ينفّذ أجندةَ غيرِه تحت أيّ عنوان، ولا يضع الجيش في مواجهة ناسِه وشعبه، ما تركَ انطباعاً إيجابياً داخل البيئة السنّية بأنّ الجيش يشكّل مظلة أمان فعلية، وليس وسيلة لاستهدافه تحقيقاً لمآرب غيره.
وكلّ هذه التطورات مجتمعةً رسّخت الانطباع بأنّ الجيش يقف على مسافة واحدة من الجميع، حيث نجحت قيادته بالتعاون مع القيادات السنّية في إعادة اللحمة بين الشارع السنّي والجيش، وهذا الإنجاز يسَجّل للجنرال جان قهوجي الذي تعاملَ بواقعية مع الأحداث من منطلق أنّ دور الجيش يقوى عندما يتحصّن بالبيئة الوطنية، ويضعف عندما يفتقد إلى الإجماع الوطني، والدليل أنّ الإجماع على دوره حوّل لبنان إلى مونتي كارلو الشرق، فيما الدوَل من حوله تشتعل حروباً وإرهاباً.
وهذه الواقعية انسحبَت أيضاً على إدارة المؤسسة، فلم يشعر أيّ مكوّن سياسي بأنّ الجيش يستغلّ الفراغ ليتمدّد سياسياً على قاعدة أنّ «الجيش هو الحل»، بل بقي كلّ الوقت تحت سلطة الحكومة، وقام بوضع حدّ للظاهرة المسيئة عند بعض الفئات اللبنانيّة التي تُؤَلِّه الجيش وتصوِّره وكأنّه لها وحدها دون سواها.
يستحقّ الجيش في عيده كلّ تحية، ليس فقط على جهوزيته العسكرية، وهي تفصيلية، إنّما على إدارته العسكرية للأزمات اللبنانية….