كلما اقترب موعد بتّ بقاء قائد الجيش في منصبه أو مغادرته تضاعفت العُقَد، مع أن المخارج المتاحة، القانونية والملتوية، تتقلّص يوماً بعد آخر. لا باب وزير الدفاع مفتوح، ولا أبواب في الأصل في مجلس الوزراء كي تفتح. آخر المتبقّي باب البرلمان
بدأ سريان مهلة النصف الأول من كانون الأول الذي اختاره رئيس البرلمان نبيه برّي لالتئام جلسة الهيئة العمومية قبل دخول الأعياد. المفترض في الأسبوع الأول اجتماع هيئة مكتب مجلس النواب لوضع جدول أعمال الجلسة. في الأسبوع الثاني التصويت على جدول أعمال مثقل بالبنود، آخرها أكثر من اقتراح قانون معجّل مكرّر يرتبط بتعديل سنّ تقاعد قائد الجيش العماد جوزف عون، كي يستمر في منصبه فوق ما يتيحه له قانون الدفاع. انقضاء مهلة نصف الشهر لا يفقده حظوظه في البقاء، بيد أنه يمسي على مسافة – بالكاد أيام – من مغادرته الى تقاعده في 10 كانون الثاني المقبل.أما ما يحوط بجلسة البرلمان، فهو الآتي:
1 – لا مشكلة في توافر نصابها العادي، الأكثرية المطلقة، للانعقاد نظراً الى وفرة الكتل التي تؤيد استمرار عون قائداً للجيش، على الأقل تبعاً لما جهرت به. النصاب العددي سهل الوصول إليه، وكذلك التصويت على اقتراح القانون، وقد يحظى بتأييد يزيد عن النصف زائداً واحداً إن لم تقع مفاجأة.
2 – تعديل قانون ما بخلفيّة سياسية تتوخّى التلاعب بروحيته، لا تجعل منه قانوناً يقتدى به بقدر انطوائه على التواء وتسخير واستهانة. لمجلس النواب تعديل قانون، أيّ قانون، ما دام صاحب اختصاص الاشتراع. بآلية وضعه وأسبابه الموجبة ونصاب المصادقة عليه، يملك أن يعدّل قانوناً ويجعل منه نقيض المتوخّى منه في سبيل خدمة السياسة – عندما تدعو وتلحّ – وتطويع النصوص والإجراءات من أجلها. ليس ما يحدث الآن ابن لحظته وابن الأحداث الحالية، مقدار ما نجم ولا يزال عن تقاليد تتقدم دائماً فكرة القوة القاهرة والظرف الاستثنائي. ربما فاتت كثيرين سابقة قديمة الى حدّ، هي الأب الأول لعسكرة القوانين منذ اتفاق الطائف، قضت بتعيين رئيس للأركان كان القانون يحظره لمن سبق أن وضع في الاحتياط. مع ذلك، عدّل مجلس النواب القانون الأصل ليمسي ذا وجه مختلف معاكس.
في المادة 21 من المرسوم الاشتراعي 102/83 (الدفاع الوطني)، أن رئيس الأركان يُعيّن من الضباط العامين ممن لم يسبق أن وضعوا في الاحتياط. في مطلع الحقبة السورية وفي ذروتها، ارتأى وليد جنبلاط تسمية العميد رياض تقي الدين رئيساً للأركان. لأنه كان قد استقال من الجيش عام 1983 في مرحلة «حرب الجبل» ثم عاد الى الجيش بعد سنتين بدعم من الزعيم الدرزي، صار من المتعذر تعيينه رئيساً للأركان بعدما سبق أن وُضع في الاحتياط. جاء الحلّ من مجلس النواب بأن التأم وعدّل المادة 21 كي يخرج بالقانون 135 الصادر في 14 نيسان 1992، يتيح «تعيين رئيس للأركان بصورة استثنائية ولمرة واحدة»، خلافاً لأحكام القانون الأصلي. هي سابقة تقي الدين التي لم تتكرر بعدذاك. ليس سوى أحد الأمثلة المعبّرة عن القوانين السهلة التسييس، ثم أضحت السهلة العسكرة. ومن ثمّ تلتها بعد ثلاث سنوات سابقة طاولت قائد الجيش على نحو ما يصير التحضير له في الوقت الحاضر على أنها أمثولة يُحتذى بها: بإرادة سورية صوّت مجلس النواب في 28 تشرين الثاني 1995 على تعديل السن القانونية لتقاعد العماد برفعها من 60 عاماً الى 63 عاماً استثنائياً بغية استمرار قائد الجيش إميل لحود في منصبه ثلاث سنوات أخرى. صدر القانون في 8 كانون الأول ونشر في الجريدة الرسمية في 21 كانون الأول برقم 463. ما توخّاه القانون إمرار السنوات الثلاث ريثما يحين أوان انتخاب قائد الجيش رئيساً للجمهورية. ما عنته السابقتان هاتان أولوية الرجل – في السياسة والحاجة الى دوره كفرد – على المؤسسة.
3 – لا يزال حزب الله يلتزم الصمت، ما خلا ما يتسرّب عنه أنه مع التوافق على بتّ التمديد تفادياً لمزيد من الانقسام الداخلي. آخر ما قاله أمام الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان إنه معه أو مع أيّ خيار سواه شرط انطباق هذا الإجراء أو ذاك على القوانين النافذة. مع أنه موقف حق، إلا أن شرطاً كهذا منبثق من الريبة التي يشعر بها الحزب من إفراط الولايات المتحدة والسعودية وأخيراً فرنسا في استعجال تمديد بقاء قائد الجيش على رأس المؤسسة العسكرية. لم يقل حزب الله بعد كلمته الأخيرة في التمديد له. يُستفاد من ملاحظاته أنه معه وضدّه في آن، مضفياً على موقفه هذا – دونما أن يكون متردّداً – صفة «الرمادية». لا يريد سلفاً من بتّ هذا الاستحقاق أن يعكس علاقة سلبية مع عون وهو في منصبه الآن، ولا في ما بعد سواء استمر فيه أو تقاعد. على أنّ ما يُسمع من مسؤولين في الحزب في تعريف «الرمادية» أنها «أوضح إعلان عن القرار». من ثمّ يفسّرونها بتأكيد الحزب دعمه الإجراء المطابق للأصول القانونية السارية.
ما يقوله مسؤولو حزب الله: رمادية الموقف أوضح إعلان عنه
4 ـ كلما اقترب موعد الوصول الى بتّ استحقاق قيادة الجيش، تمديداً أو تعييناً، توسّع الشرخ من حوله. بين الأفرقاء المسيحيين بدايةً، وبين بعضهم وبكركي، وبين بعضهم وأفرقاء آخرين غير مسيحيين. باتت المفارقات من حوله مثيرة للعجب بجمعها أضداداً أصحّ ما يمكن القول فيهم إن أيّاً منهم لا يطيق الآخر، ويفرّق – أو يوحي – بين الحلفاء. لن يكون سهل الهضم على حزب الله القول إنه التحق متأخّراً بالتمديد لقائد الجيش، فيما سبقه إليه عدوّه اللدود حزب القوات اللبنانية. ليس سهلاً عليه أن يكون في صلب الانقسام المسيحي وجزءاً منه في التباعد بين البطريركية المارونية والتيار الوطني الحر، مع أن مفاضلته بينهما محسومة. ليس سهلاً أيضاً أن يفترق حزب الله في الاستحقاق نفسه عن التيار الوطني الحر في مرحلة يحرص كلاهما على إعادة تحالفهما الأطول عمراً للمرحلة المقبلة. يكمن اللغز في ما يمكن أن يُحسب، في الظاهر على الأقل، تبايناً بين برّي وحزب الله، وكلاهما منذ أولى جلسات انتخاب رئيس الجمهورية في أيلول 2022 على طرف نقيض حادّ من حزب القوات اللبنانية.
لم يقل رئيس المجلس الى الآن إنه يؤيد بقاء قائد الجيش في منصبه، بيد أن موقفه يدور من حول الاقتراح. ما يُسمع منه أنه سيعرضه في الجلسة العمومية ولتقرر الغالبية الخيار. مجرد انعقاد الجلسة يضمر تأييداً ضمنياً وتسليماً بإخراج التمديد في البرلمان بعدما رام برّي لأسابيع خلت إبعاد الكأس هذه عنه، ودفعها الى مجلس الوزراء الذي لا يملك، في الاختصاص والصلاحية المنوطة به، سوى أن يعيّن قائداً جديداً للجيش بغالبية الثلثين.