بات واضحاً أنّ لبنان يتجّه نحو فراغ ثالث كبير، بعد فراغين في رئاسة الجمهورية وحاكمية مصرف لبنان. هي قيادة الجيش هذه المرّة. حينذاك، عندما يقع البلد في مناخات الإرباك والفوضى، ستكون الفرصة الفضلى لقوى السلطة لكي تصطاد الغنائم في الماء العكر.
ما الذي تبدّل، بانتهاء ولاية رياض سلامة وحلول نائبه وسيم منصوري، محاطاً بثلاثة نواب، في حاكمية مصرف لبنان؟
في الظاهر، طلب الفريق الجديد ضمانات تحمل الدمغة التشريعية والقانونية لئلا يتحمّلوا تبعات المرحلة المقبلة من السلوك المالي والنقدي الرديء، فطمأنتهم السلطة إلى أنّها ستمنحهم هذه التغطية.
يعني ذلك أولاً اعتراف أهل السلطة بأنّ النهج الذي سلكوه، والذي تكفّل سلامة بتسويقه تقنياً، باعتباره خبيراً في شؤون المال والنقد، كان سيئاً. ويعني ثانياً أنّ نواب الحاكم كانوا يعرفون ذلك لكنهم سكتوا عنه طويلاً.
ويعني ذلك ثالثاً، أنّ أهل السلطة مصرّون على المضي في النهج الذي أوصل البلد إلى الكارثة، وأنّهم سيستمرون خلال الفترة المقبلة في رفض الإصلاح وسيواصلون سياسة مدّ اليد إلى الودائع. وليس هناك حدّ أدنى من الثقة في استجابة هؤلاء لمطالب أعضاء المجلس الحالي للمصرف المركزي باعتماد خطوات إصلاحية يطالب بها صندوق النقد الدولي. فلو كانت لدى أهل السلطة قابلية الإصلاح لاستجابوا للمطالب منذ أكثر من 3 أعوام، عندما بدأوا مفاوضة الصندوق.
هناك مغزى لتحديد مهلة 6 أشهر للحاكم الجديد، بالوكالة، يحصل خلالها على تشريع باستهلاك 200 مليون دولار شهرياً. فهذه المهلة مطلوبة للترقيع وإمرار المرحلة في انتظار المحطة التالية، وهي انتهاء ولاية قائد الجيش العماد جوزف عون.
وبالتأكيد، لا أحد يصدّق أنّ السلطة التي أهدرت مئات المليارات من الدولار خلال عقود من الفساد، من دون أدنى ادّعاء على سارق، ستتكفّل فعلاً بردّ هذا المبلغ. ويسأل البعض: لماذا تردّ هذا المليار دولار حصراً، وهي أباحت ضياع أكثر من 25 ملياراً من احتياط العملات الصعبة، خلال 4 سنوات مضت، من دون أي تبرير وفي غياب الشفافية الكامل.
والمثير هو أنّ السلطة التي دافعت بكل الوسائل عن سلامة وما قام به طوال سنوات، وجدت الفرصة لنفض يديها من الكارثة. وهي تستنفر قواها دفاعاً عن الحاكم الجديد بالوكالة، وستتجنّب تعريضه لأي مأزق، وستمنع بأي ثمن انفجار القنبلة المالية النقدية في يده، لأنّه محسوب عليها.
ولكن، وفق بعض العارفين، سيبقى طيف رياض سلامة موجوداً في المصرف المركزي من خلال بعض الاستشارات أو النصائح. فهو أدار المصرف 30 عاماً وأرسى سياسة مثيرة للجدل باركتها الطبقة السياسية واستغلتها. وليس سهلاً انسلاخه عن المصرف المركزي في شكل كامل و»انفطام» الآخرين عنه، لأنّ بعض الآليات التي اخترعها سلامة قد لا يعرف أحد تشغيلها «على طريقته»، ولا حتى نوابه.
إذاً، ما يُراد مالياً هو استمرار «الترقيع» حتى تأتي التسوية السياسية من مكان ما. وتدرك قوى السلطة أنّ هذه التسوية ستتأخّر. بل هي تعتبر أنّ من مصلحتها تأخير التسوية، لأنّ عامل الوقت يخدمها.
مهلة الـ 6 أشهر مدروسة على القياس، لإمرار المرحلة الفاصلة عن انتهاء ولاية قائد الجيش العماد جوزف عون. وهي تأخذ في الاعتبار فشل مهمّة الوسيط الفرنسي جان إيف لودريان وسائر المبادرات الرامية إلى انتخاب رئيس للجمهورية.
وتعتقد أوساط معارضة أنّ القوى النافذة ستتعمّد تطيير الاستحقاق الرئاسي إلى ما بعد انتهاء ولاية عون، أي مطلع السنة المقبلة، لأنّ ذلك سيتيح لها مضاعفة أرباحها.
فالجميع، ولا سيما منهم المسيحيون، عندما يصلون إلى موعد يكون فيه البلد بلا رئيس للجمهورية وبلا حاكم أصيل للمصرف المركزي ولا قائد للجيش، سيعتبرون أنّ الدولة قد أصبحت بلا رأس، وبلا مؤسسات، وأنّ البلد ربما يقترب من حال التفكّك. وسيرى المسيحيون أنّهم صاروا عملياً خارج مؤسسات الحكم. ومن البديهي في هذه الحال أن يوافق البعض على تسوية شاملة، ولو جاءت مجحفة له. فالتسوية تبقى أفضل من الفراغ الذي يعني خسارة كل شيء.
المطلعون يعتقدون أنّ الوصول إلى الفراغ في موقع قيادة الجيش سيكون مناسبة لفتح الباب على تسوية شاملة يستعد لها النافذون في السلطة. فمن خلالها سيحاولون فرض خياراتهم على الفريق المقابل، ما دام ضعيفاً وفاقداً أوراق القوة. وهذه التسوية ستكون هي نفسها المؤتمر التأسيسي الذي ينشده البعض، أو ربما هي ستكفل تحقيق النتائج المتوخاة من هذا المؤتمر، في شكل سلس، ومن دون الحاجة إلى انعقاده.