مع ان الخيارات المتداولة محدودة وضيقة، الا ان الخوض في استحقاق الجيش، وتحديداً قائده قبل 30 ايلول، سيفسح في المجال امام جدل سياسي مستفيض يتجاوز بته الى ما عداه. ليس تأجيل التسريح سوى محطة عابرة في شغور رئاسي طويل
مقدار نقاط القوة التي تحملها حجة الرئيس ميشال عون في الاصرار على تعيين قائد جديد للجيش، تنطوي على ما يكفي من نقاط ضعف كي يتجرّع، ربما للمرة الثالثة، الموافقة على مضض على اجراء غير مألوف في الجيش لئلا يقال ان لا سابقة له، بعدما خبره عام 1963 سلفه اللواء عادل شهاب بتمديد ولايته سنتين، هو تأجيل تسريح القائد الحالي العماد جان قهوجي.
عندما رفض عون تأجيل التسريح الاول عام 2013 كانت الذريعة المضادة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي المستقيلة وهي في طور تصريف الاعمال، ما يحول دون التئام مجلس الوزراء بالثلثين لتعيين قائد جديد. ثم كان تأجيل تسريح ثان عام 2015 بذريعة اضعف هي اخفاق مجلس الوزراء بثلثيه في الاتفاق على خلف لقهوجي كي يكرّس، ضمناً من خلال الخلاف السياسي، تأجيل التسريح.
في المرة الاولى كانت الحجة وجهة نظر مبدئية هي حتمية احالة قائد الجيش على التقاعد عندما يبلغ السنّ القانونية كي يفسح في المجال امام سواه تبؤو المنصب، ولا يحرم الضباط الآخرين حق التدرج والوصول الى هذا الموقع. في المرة الثانية كانت الحجة مزدوجة: وجهة النظر المبدئية زائداً رغبة عون في تعيين صهره العميد شامل روكز قائداً للجيش قبل بلوغه سن التقاعد في تشرين الاول 2015، في الشهر التالي لتأجيل تسريح قهوجي. في المرة الثالثة الحالية يتسلح عون ــــ الى وجهة النظر المبدئية اياها وإن من دون مرشح له هذه المرة ــــ بتعيين مجلس الوزراء بثلثيه في كانون الثاني الماضي ثلاثة اعضاء في المجلس العسكري ملأوا الشغور كي تنتظم اجتماعات المجلس، ويتحضّر مجلس الوزراء بالنصاب الموصوف نفسه لتعيين رئيس جديد للاركان خلفاً للواء وليد سلمان.
في المرة الثانية بعد تأجيل تسريح اول لسنتين، كانت ثمة حجة لخصوم عون في الظاهر منطقية، هي تعذر تعيين قائد جديد للجيش في ظل شغور رئاسة الجمهورية، مع ان حكومة الرئيس سليم الحص عام 1988 ــــ وقد اصرت على انها هي الحكومة الدستورية والشرعية في مواجهة الحكومة العسكرية التي ترأسها عون آنذاك ــــ عينت قائداً للجيش بالتكليف هو العميد سامي الخطيب بسبب ما عدّته شغور القيادة بعد الطعن في استمرار عون في منصبه، ولم يكن ثمة رئيس للبلاد مذ انقضت ولاية الرئيس امين الجميل.
عند تأجيل التسريح الاول عام 2013 ــــ وكان لا يزال ثمة رئيس للجمهورية ــــ لم يستطع الرئيس ميشال سليمان الحؤول دونه، ولا حمل مجلس الوزراء على تمديد ولاية قهوجي بثلثيه على غرار قرار تعيينه، ولا على تعيين خلف له وإن في ظل حكومة مستقيلة نظراً الى اهمية الاستحقاق. وفي ذلك ما يكفي للدلالة على الدور الوهمي لرئيس الجمهورية في موقع لم يعد هو مَن يصنعه كما يتصوّر البعض.
ما اوفر الحجج بين ايدي المنادين بتعيين قائد جديد، واوفرها ايضاً بين ايدي المنادين بتأجيل التسريح مجدداً. اما الخيار في نهاية المطاف فتملكه موازين القوى اكثر منها الحجج المتمكنة او المقنعة في هذ الفريق او ذاك.
ثمة ملاحظتان في هذا السياق:
1 ــــ لم يعد من اساس لقاعدة تاريخية كانت درجت قبل اتفاق الطائف، هي ان رئيس الجمهورية مَن يسمّي قائد الجيش، ويعرض الإسم على مجلس الوزراء ــــ من دون اعلامه مسبقاً حتى ــــ والحصول على موافقة عمياء منه على تعيينه. نُظر الى القائد حينذاك على انه احد معاوني الرئيس ليس الا.
منذ اتفاق الطائف لم يكن العماد اميل لحود مرشح الرئيس الياس هراوي، ولا العماد ميشال سليمان مرشح الرئيس اميل لحود، ولا العماد جان قهوجي مرشح الرئيس ميشال سليمان. الاصح ان قادة الجيش هؤلاء فرضوا على رؤساء كان لديهم مرشحون سواهم. سمّت دمشق الاولين، واستقرت موازين القوى الناشئة عن اتفاق الدوحة على الثالث.
الاهم في ذلك كله، ان الممارسة الناجمة عن اتفاق الطائف ــــ عندما كانت سوريا في لبنان ثم في مرحلة ما بعد جلائها ــــ نزعت عن قائد الجيش صفة الموظف الكبير شأن ما كان قبل ذاك، وجعلته مرجعاً كبيراً في صلب التوازنات السياسية الداخلية، حامياً في آن معاً خلافاتها كما توافقها. بات من المستحيل إقالته، ومن المتعذّر تجاوز دوره او فرض قرار سياسي عليه، او اهمال ما تتطلبه المؤسسة العسكرية. صارت ولايته لصيقة ولاية الرئيس ما لم يشغر منصب الاخير، من دون ان تكون كذلك في ما مضى اذ استعدنا اقالة ثلاثة قادة عُدّوا انهم ارتكبوا اخطاء فادحة او تكبدّوا لوحدهم ثمن اخطاء السياسيين: العماد اميل بستاني عام 1970، والعماد اسكندر غانم عام 1975، والعماد ابرهيم طنوس عام 1984. ذلك ما يهب قائد الجيش، كل قائد منذ ما بعد اتفاق الطائف، مهمة انه مشروع رئيس محتمل.
2 ــــ منذ عام 2008 على اثر تسوية الدوحة، من دون ان يكون ثمة ترابط مباشر بينهما، افتتاحاً للسابقة، بات تعيين قائد للجيش يتطلب توافقاً واسعاً في مجلس الوزراء الذي لم يعد يكتفي بأخذ العلم والخبر به. في آب عامذاك عيّنت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة قهوجي قائداً للجيش. لم يمر التعيين سلساً على ما اعتاده. للمرة الاولى في تاريخ هذا الاستحقاق لا يكتفى بطرح الاسم على التصويت فحسب، بل عارضه ثلاثة وزراء (غازي العريضي ووائل أبوفاعور وابرهيم شمس الدين) وامتنع وزيران عن اتخاذ موقف (ابرهيم نجار وأنطوان كرم)، ناهيك بغياب ثلاثة وزراء آخرين. وهي المرة الاولى لا يعيّن قائد باجماع السلطة الاجرائية.
على ان ما حصل حينذاك ــــ وهو التصويت الاول منذ تنفيذ اتفاق الطائف ــــ كان الإنذار الاول الذي لم يتلقفه على ما يبدو الزعماء الموارنة، بمن فيهم رئيس الجمهورية. حتى ذلك الوقت، عنى تعيين قائد الجيش أن طائفته تختاره، ورئيس الجمهورية دون سواه يسمّيه، قبل ان يصل هؤلاء جميعاً الى الإنذار الثاني في الشغور الرئاسي الراهن: ليس الموارنة مَن يختارون الرئيس الماروني بل موازين القوى الداخلية. ما يرسمه الشغور الرئاسي اليوم بالغ الوضوح: للشيعة مرشح ماروني يرفضه السنّة، وللسنّة مرشح ماروني يرفضه الشيعة. المفارقة ان المرشحين كانا حليفين قبل ان يتطلقا، وفي فريق سياسي واحد من غير ان يكون في وسع هذا الفريق انتخاب احدهما.
لا يقل الموقف من قائد الجيش اهمية في ميزان الصراع الشيعي ــــ السنّي. كل منهما يريد الجيش مظلته، وفي الوقت نفسه مصدر حمايته. منذ عام 2013 يلتقي الفريقان على تأجيل التسريح لقهوجي لسببين متناقضين: حاجة حزب الله الى ظهير بينما يقاتل في سوريا، وحاجة تيار المستقبل الى مَن يحمي وجوده ودوره السياسي من الفريق الآخر والتيارات التكفيرية، وفي الوقت نفسه يلوح بقائده في الاستحقاق الرئاسي.