IMLebanon

جرأة الاعتراف

 

جميلٌ أن يكسر أحدهم مناخ بيروت الموحش بحفلاتٍ موسيقية تبدّد الكآبة الجاثية على قلوبنا. فقد بتنا، نحن اللبنانيون، القابعون في مركبٍ تتقاذفه رياحٌ عاتية، كمن يتمسّك عبثاً بخشبة أملٍ برجاء لا يلقى صدىً. بالأمس القريب أدخلت “مهرجانات بعلبك” الفرح الى قلوبنا بأمسيةٍ راقية دغدغت ذاكرتنا ببعض مزايا لبناننا الجميل، وإن بقالبٍ يشي بأنّ “الوطن” الحقيقي ما زال حلماً بعيد المنال. ومن قماشة الحلم نفسها كانت أمسية “كرمالك يا وطن” احتفالاً بالجيش في عيده الخامس والسبعين. كلمة حقّ تقال إنّها كانت أمسية ساحرة تضافرت فيها مقوّمات النجاح كلها: نيّة سامية في التغني بجيشٍ حامٍ للديار، واستقدامٌ لـ”قبلة” المطربين اللبنانييين، مع إطلالةٍ خاصة للفنان الإماراتي حسين الجسمي بأغنية فيروزية تغني “حُبّ” لبنان، ومشاركة للعازف ميشال فاضل برفقة ما يربو على خمسين موسيقياً وكورال من 30 شخصاً.

 

كانت أمسيةً جميلة لولا “سقطة” استبدال جملة “إن الثورة تولد من رحم الأبطال” بفضيحة الـ”لالالالالا”، التي حتى اللحظة لم نجد جواباً شافياً لحيثية حصولها. تنصّل الجميع من المسؤولية: الجيش في صمتٍ مطبق. اللجنة المنظمة للحدث “لبناني وأفتخر” أصدرت بياناً تستنكر فيه التطاول على الحفلة، متحدّثة عن حملة “مغرضة” على مواقع التواصل هدفها “الاساءة” ليس إلا. والأغرب محاولة اللجنة بأن تشفي غليل المستنكرين على الحذف بتبريرٍ عجيب غريب يلقي ملامة الضجة المثارة على خلل في قدرات الناس “السمعية”: “فرقة الكورال قامت بتأديتها خلال الحفل بتقنية الصوتين، أي أنه قام نصف الكورال بإنشادها وقام النصف الآخر باستبدالها بإيقاع صوتي”، تقول اللجنة.

 

أفظع من الاتهام بخللٍ سمعي، التهكّم من الحسّ النقدي الحيّ لدى البعض اليسير، والدافع الى التساؤل عن مغزى القيام بفعلةٍ كهذه. والأنكى أنّنا، وفي معرض قيامنا بواجبنا المهني، وعند استطلاعنا آراء المشاركين والقيمين على المناسبة للوقوف على ما حصل فعلاً، قوبلنا بحائطٍ من الممانعة. لا أحد راغبٌ في التعليق. الكلّ رافض إقحامه في المسألة. حتى الفنان غسان صليبا الذي أعلن صباحاً “عدم وجود قمع”، معلناً أنّ للجيش حقّ فرض بعض الضوابط و”التمنيات”، عاد وامتنع عن التعليق.

 

هي الحلقة المفرغة ذاتها ندور فيها عند كل حدث في البلد، سياسياً كان أم فنياً أم ثقافياً. لا رغبة في المصارحة النبيلة، ولا بادرة إطلاقاً لتحمّل أيّ كان لمسؤولية أيّ فعل. الكلّ غير مسؤول عن الشوائب، من المتربّعين على العروش، مروراً بالمشاركين، وصولاً الى المنفّذين الصغار. فهل من ملفٍ عرفنا مرتكبيه بوضوحٍ صارخ؟ هل من مسؤوليةٍ لم تغلّف بالغموض المطلق؟ وفي الفنّ كما في السياسة الكلّ غير مسؤول عن شائبةٍ فاضحة. منطق الإصرار على “الضبابية ” في كلّ الشؤون السياسية والمصيرية مؤذٍ، كونه يكرّس لنهج التغاضي الدائم عن الهفوات المميتة، والاستخفاف بتداعيات الأشياء، مهما عظمت تردّداتها. والأخطر أن ينسحب هذا المنطق على المناسبات الثقافية وأن تتحول بديهيات الممارسة الثقافية الى وجهات نظر تتقاذفها الأطراف المتناحرة.

 

ما حصل في حفلة الجيش من تشويهٍ لقصيدة “قبانيّة” وأغنية باتت جزءاً من الذاكرة الجماعية معيبٌ ومشوّه لجمال المناسبة، والتغاضي عمّا حصل، بالتخفيف من “فداحة” الفعل لا يدعو الى المفخرة بشيء. والردّ على تساؤلات الناس المستفسرة بأسطوانة “الاساءة” و”المؤامرات الكونية” يفضح إمعاناً في “لفلفة” الارتكابات الخاطئة، بدل التحلّي بشجاعة تحمّل المسؤولية. أما من طرف في هذا البلد يملك نبل الاعتراف وجرأة التراجع عن خطأ؟ لن ننتظر رداً طبعاً فقد وصلنا الجواب بعقودٍ من الممارسات المخجلة…