IMLebanon

الجيش… هو ما تبقى

القتلى في لبنان قاربوا العشرات منذ ظَهَر تنظيما «النصرة» و«داعش» إلى العلن. هل ثمّة منطقة أو معزل من معازل البلد بعد لم يتأثر فيها الجيش والأجهزة الأمنية؟ هل ثمّة عائلة لبنانية واحدة لم تتضرّر من هذا العنف المتوحّش؟ وعليه، هل ثمّة أحدٌ بعد يصدّق أنّ هذه الجماعات ليست وازنة بيننا وفاعلة في الأمن والعسكر؟

لم يعد ثمّة مكان للشكوك. لبنان دخل في أتون الوقت. الجيش فقط هو ما تبقى له. وإذا سقط، سقط البلد برمّته في نفق الجحيم الذي دخلناه مرات ومرات من دون أن نعتبر. الآن لم نعد نستطيع الاستمرار. جلَّ ما نستطيعه، إن توافرت إرادة لبنانية داخلية جادة، ورغبة دولية جامعة بذلك، أن نبقى والجيش نخوض حرب إستنزاف لا قاع مرئياً لها.

حتى الذين يقفون مع هذه الجماعات أو يؤيّدونها أو يحتضنونها لا يستطيعون النأي بأنفسهم عن النار التي اندلعت في بلاد كانت ذات يوم تتغنّى كذباً وفصاحةً أن لا بيئة حاضنة للإرهاب وللإرهابيين. ذلك أنّ الدعم المكشوف والمستتر يؤلّب عليها ما تخشاه فعلاً.

وقد لا يكون الأمر غريباً بالنسبة إلى كثيرين، لأنّه عندما تكون الحياة السياسية منمطة مذهبياً كما هي الحال، فإنّ الخطاب الذي يسود لن يكون إلّا خشبياً، وإلّا نتاجاً لتلاوة «الأب والإبن والمذهب» في معبد نظام الطوائف والقائم منذ كان لبنان.

لندع جانباً كلّ خرافات «التنوّع اللبناني» و«الديموقراطية» والتركيز على «العيش المشترك» وأحاديث المؤامرات الأميركية والإمبريالية. فالمسألة اليوم تتلخص في طرح التساؤل هل يستطيع لبنان الصمود في وجه تمدّد هذه الجماعات؟

لكن أيّ لبنان: الفراغ الرئاسي المستمرّ، أم التمديد الآتي على رغم المزايدات اللفظية عن الديموقراطية، أو الأزمات المعيشية والإجتماعية المُستدامة، أو «زجل» تسليح الجيش والقوى الأمنية في سوق التجاذبات الإقليمية والدولية؟ ذلك أنّ بعضاً منّا يريد له قوّة من الولايات المتحدة، وآخر يريدها من إيران.

ما يحصل في طرابلس ضحاياه من السنّة قبل غيرهم: فالقتلة سنّة والمسفوح دمهم سنّة. هذا الإرهاب وقبله الكثير كان يتنقل في الارجاء اللبنانية كحاصل لمعادلة إقصاء وتهشيم تيار «المستقبل» والرئيس سعد الحريري ومشروعه السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وهذا بالضبط ما أفضى إلى وقوعنا جميعاً في حروب ومجازر لا حصر لها من الجنوب الى الشمال ومن الشرق الى الغرب.

مَن يتابع وقائع البلد يقلق من اللغة الخشبية السائدة. ويستاء ممَّن يطلون عبر شاشات التلفزة ليتحدّثوا بترف الساسة في فرنسا أو سويسرا. أحاديث هؤلاء لا قيمة معرفية لها، وإن كانت تملك قيمة سياسية من نوع ما.

ذلك أنّ استمرار الاضطراب والحروب وتنقّلها على مساحة لبنان، هو في معنى من المعاني تأكيد لمَن لا يريد التأكد بعد، أنّه يجب التنبّه بخوف إلى وعلى الجهد المبذول من الجيش والقوى الأمنية، وأنّ البلد ومعه أهله جميعهم على شفا السقوط مجدّداً في تواريخ أهلية، خصوصاً مع صمود هذه الجماعات الإرهابية صموداً عجائبياً ومتمادياً.

كلّ هذا والساسة عندنا يكرّرون خدعتهم الأصلية: لا يقولون ما يضمرون وما ينبغي للبنانيّين أن يعرفوه. يصمّون آذاننا بما يريديونه هم. ويتحرّكون على إيقاع التقاربات الإقليمية، وكأنما ما يحدث في لبنان يجري في بلد آخر. والأرجح أنّ الجزء الاعمّ في غالبيته غير معني باستيعاب درس الممثل الفرنسي كلود شابرول والذي تحوّل فيلسوفاً، وقال ذات مرة: «الحماقة أفضل من الذكاء وأكثر عمقاً، فالذكاء محدود والحماقة ليس لها حدود».

والحال هذه، يجدر بمتابعي شؤون البلد أن ينتبّهوا إلى أنه إذا كان الإسلام السنّي السياسي المعتدل، متمثلاً بتيار «المستقبل» هو خصم النظام السوري و«حزب الله» قبل الثورة السورية وبعدها، فإنّ من شأن هذه الخصومة تغذية التيارات السنّية الأكثر تشدّداً، في البلد وخارجه على حدٍّ سواء.

وإذا كانت الطبقة السياسية الناهضة بالبلد على هذا المقدار من البراعة في المزايدات وتورية الذات اللبنانية عن استحقاقاتها، فعليها محاولة الإستدراك بأنّ التشرذم الداخلي وإجهاد الجيش واستنزافه كلفته أعلى من الإعتراف بالأخطاء منذ 7 أيار 2008، مروراً بالقمصان السود، وصولاً إلى احتلال جزء من الأراضي السورية ومساندة نظام الأسد.