ماذا في وسع الجيش ان يفعل في الشارع؟ وجهه للحراك الشعبي وظهره للسلطات الرسمية والطبقة الحاكمة
استقبل قائد الجيش العماد جوزف عون البارحة المدير العام للشؤون السياسية في وزارة الخارجية البريطانية ريتشارد مور، في بداية تجوله على المسؤولين اللبنانيين. في سياق الحديث، شرح عون لزائره دور الجيش في الازمة التي تتخبط فيها البلاد وتوليه المهمتين الاكثر دقة: حماية المتظاهرين وتجمعاتهم، وفي الوقت نفسه منع الاعتداء على المرافق والمقار والمنشآت الرسمية. بعدما اصغى اليه الموفد البريطاني، مستعيناً بذاكرة الملحق العسكري المرافق، استرجع ما واجهه جيش مملكته في ايرلندا ابان حربها الاهلية في مواجهة ثوارها والجيش الجمهوري الايرلندي، قائلاً: الجيش البريطاني المعد لخوض اكبر المعارك وراء البحار، وقف مكتوف الايدي امام ما يجري امامه ولا يعرف ماذا يفعل، هو غير المدرّب على المواجهة في الشوارع.
يقتضب هذا الشق في حوار الرجلين واقع مشكلة يجبه بها الجيش ما يحدث منذ 17 تشرين الاول.
ما وقع على جسر فؤاد شهاب (الرينغ) ليل الاحد، يعدّه الجيش جرس انذار خطيراً للغاية. اكثر بكثير من حوادث مماثلة جماعية سبقته في الايام الـ40 للحراك الشعبي. مذذاك حادثا شغب في ساحة رياض الصلح، وحادثا شغب على الرينغ ثالثهما الاحد، ناهيك بسادس منفرد فجر الجمعة المنصرم (22 تشرين الثاني)، عندما اقدم شخص على إحراق «مجسم الثورة» في ساحة الشهداء وفرّ. اكتشف الجيش امره، وهو يلاحقه من غير معرفة هويته الحقيقية سوى اللقب الذي يحمله وهو «زيكو».
في المرات الخمس فريقا المواجهة لم يتغيّرا: عناصر شغب هاجمت المعتصمين بدراجات، واحياناً من دونها وأحرقت خيمهم واعتدت على بعضهم. لكن ما حدث الاحد اكثر حساسية، وإن بدا فردياً عادياً كأي حادث آخر: حضر شخص على دراجة الى وسط الرينغ، فطلب منه المعتصمون وهم يقفلون الطريق مغادرة صفوفهم، وقد عدّوه من حزب الله. بعد تلاسن ترك المكان وعاد بعد قليل بنحو عشرة اشخاص على دراجاتهم من خندق الغميق المجاورة، فتطور الاشتباك. فجأة اقتحم المكان عشرات الاشخاص على دراجاتهم، ذكر بعض المعلومات الامنية انهم قاربوا 300 شخص يهتفون «شيعة، شيعة». للفور انفجرت الاشتباكات واعمال الشغب التي طاولت اعتداءات على محال ومتاجر ومطاعم مجاورة قريبة من الساحة في شارع مونو. احتاج استعادة الهدوء الى الاستعانة بالجيش.
تبعاً للخطة الامنية التي سبق ان وضعها قادة الاجهزة الامنية في اجتماع اليرزة في 26 تشرين الاول، توزّع الجيش وقوى الامن الداخلي والامن العام وامن الدولة المناطق اقطاعات لحفظ الامن فيها. طلبت قوى الامن الداخلي ان يكون الرينغ نقطتها هي، انسجاماً مع واقع ان السرايا الـ11 لقوة مكافحة الشغب (1100 عنصر) – المدربة والمجهزة بكل عتاد حرب الشوارع – حصرت مهماتها في بقعة تمتد من الوسط التجاري (سوليدير) وصولاً الى السرايا الحكومية بما في ذلك بيت الوسط، اي توليها حصراً المحافظة على الامن في نطاق دائرة رئيس الحكومة سعد الحريري وتنقلاته. ونظراً الى اقتصار جسر فؤاد شهاب على بضعة عناصر من سرية واحدة من الـ11، بينما في السرايا الحكومية وحدها 400 عنصر من مكافحة الشغب لحمايتها، لم يسع بضعة عناصر مكافحة الشغب ضبط اشتباكات الشارع ليل الاحد لقلة عددهم، الى ان اتت تعزيزات من الجيش فصل ما بين الطرفين تماماً.
لم تتزحزح اي من سرايا قوة مكافحة الشغب من القصر الحكومي، ولا من بيت الوسط حيث سريتان على الاقل، على بعد بضع مئات من الامتار من الرينغ لنجدة العناصر المتفرجين على الاضطرابات، مكتفية بكانتونها. في حال واحدة كانت قوى الامن توافق على الاستغناء عن سرية خارج مربعها، عندما يطلب منها الجيش المساعدة على طريق القصر الجمهوري في بعبدا عندما كان الحراك يدعو الى التظاهر والاعتصام هناك.
ما حدث على جسر فؤاد شهاب فتّح عين الجيش على بضعة معطيات اولى:
1 – استحداث تجمّع عسكري عند نقطة قريبة من الرينغ للتدخّل عند الاقتضاء. ما حدث في هذا المكان استمر طوال ساعتين، في حين ان الحوادث السابقة المماثلة لم تدم اكثر من ربع ساعة او نصف ساعة في احسن الاحوال. ما يعني ان اللعبة الجديدة للدراجات واصحابها مرشحة ليس للتكرار فحسب، بل لنَفَس طويل في المواجهة في الشارع.
2 ـ خطورة الشعارات التي رُفعت، بالتساوي، من طرفي اشتباكات الاحد: بعد «شيعة، شيعة»، ارتفعت هتافات مقابلة في معظمها مسيحية استحضرت «الاشرفية» و«بشير الجميّل»، مناوئة لحزب الله وحركة امل اعادت الى الاذهان سني الحرب اللبنانية وخطوط تماسها، اضحى جسر فؤاد شهاب ذائع الصيت منذ تحوّل بعد الشياح – عين الرمانة والمتحف – البربير الى خط تماس ثالث رئيسي ما بين البيروتين الاسلامية والمسيحية. صار اسمه «رينغ» دلالة على تحوّله حلبة قتل، من وفرة القنص الذي اصطاد مئات الابرياء العابرين عليه. تالياً عكست الهتافات وصراخ الاحد خطراً كبيراً يؤذن باستعادة لغة طائفية ظُن انها دُفنت منذ وقت طويل.
لم تنسحب الدراجات بأصحابها الا بعد اتصالات سريعة اجراها الجيش بحزب الله الذي نفى علاقته بأولئك، الا ان في وسعه سحبهم من ساحة الاشتباك، عازياً تصرّفهم الى ردّ فعل فوري بعد هتافات مناوئة للرئيس نبيه برّي والامين العام للحزب السيد حسن نصرالله.
3 – ينبع قلق الجيش من التطور السلبي المستجد في التعاطي مع الحراك الشعبي، المختلف عن الحوادث الاربعة السابقة، كي يؤذن من خلال هذا الكمّ من اقتحام ساحات المعتصمين، بأن ثمة شارعاً استيقظ على وقع شارع آخر، وبات هذان الشارعان واقعياً وجهاً لوجه، يقتضي الاخذ في الاعتبار احتمال تكرار ما حدث وربما تفلّته على نطاق اوسع.
بات الجيش اسير مهمة بائسة هي فصل هؤلاء عن اولئك
4 – يعرف الجيش ان نزوله الى الشارع بقوة لا مفر من ان يتسبب بإراقة دم. وهو ما يرفضه ما لم يقترن بقرار سياسي من مجلس الوزراء. مع ذلك، قبل استقالة الحكومة، لم يتوقع صدور قرار كهذا، ما يدفعه الى تفادي حِمل هذا الوزر. لكنه الآن اضحى اسير مهمة بائسة هي فصل هؤلاء عن اولئك. بالكاد خرج من حادثة خلدة في 13 تشرين الثاني بعدما ادت الى مقتل علاء ابو فخر من غير ان تكون متعمدة، بل نجمت عن رد فعل فوري افضى الى اطلاق نار عليه من سلاح مرافق ضابط كان يمر في المحلة وتلاسن مع الضحية.
5 – الجيش اللبناني ليس مدرّباً على قمع تظاهرات ومواجهة اعتصامات، ولا تدخل هذه في مهماته، ولا يمتلك الخبرة والتدريب اللازمين كما لدى قوة مكافحة الشغب بسراياها التي أُنفق على تدريبها وتجهيزها وتزويدها سلاح المواجهة واعتدتها ملايين الدولارات. التعليمات المعطاة للجيش هي إما يُطلق النار او لا يطلقها، لكن ليس ان يقف كي يفصل بين متقاتلين او متشابكين في الشارع. عندما فعل ذلك في حرب السنتين (1975 – 1976) لم يطل الوقت كي ينقسم على نفسه، ويذهب نصفه الى الشرق والنصف الآخر الى الغرب. اسلحة الجيش، لا سيما منها الحديث التي دخلت اليه في السنوات الاخيرة، كانت لمواجهة الارهاب واسرائيل، واثبتت قوته وفاعلية تدريبه واسلحته هذه في حرب الجرود في آب 2017. بيد انه الآن يخوض تجربة غير مسبوقة، بوضعه في الشارع وجهاً لوجه امام معتصمين تارة، وللفصل بين محتجين ومحتجين على المحتجين طوراً. في بساطة، لم يمتلك الجيش بعد موهبة مكافحة التظاهرات والاعتصامات.