من المفترض أن تكون جولة العنف التي تشهدها طرابلس هي الجولة الأخيرة من ضمن سلسلة شَهدتها عاصمة الشمال على مدى الأعوام الماضية، ذلك أنّ قرار الحسم قد اتخذ، ما يعني أنّ العملية لن تتوقف إلّا بعد إمساك الجيش بكامل الساحة الطرابلسية.
صحيح أنّ القرار يشمل منطقة عكار أيضاً، إلّا أنّ الجرود الواسعة والطبيعة الجغرافية تساعدان المسلحين على الانكفاء في اتجاهها، لكنّ وحدات الجيش ستستمر في حملات المطاردة حتى السيطرة الكاملة على تلك المناطق.
جملة عوامل ساهمت في اكتمال القرار الداعي إلى الحسم العسكري، منها ما هو عسكري، ومنها ما له علاقة بالقرار السياسي، مع الإشارة الى أنّ التحضيرات العسكرية للحسم كانت قد بدأت منذ فترة.
على المستوى العسكري كان الوضع قد بلغ حدّاً خطراً يُهدّد الساحة اللبنانية برمّتها في ظلّ وجود نيّات بملاقاة أيّ هجوم تتعرض له المناطق البقاعية الحدودية، بتفجير داخلي في الشمال بهدف تثبيت قدرات الجيش. فعملت «جبهة النصرة» على رعاية خلايا إرهابية في طرابلس وعكار في انتظار اللحظة المناسبة.
في تلك المرحلة كانت المعلومات تشير الى تحضيرات لهذه الخلايا تتراوح ما بين التمركز داخل الأزقة والأحياء الشعبية، مثل خلية أسامة منصور وشادي المولوي في باب التبانة، وبين التحضير لعمليات تفجير إرهابية وتحريض عسكريين على الفرار والتخطيط لخطف أسماء كبيرة (بعض هذه الأسماء شمالية وقد حُذّرت) مثل خلية احمد ميقاتي.
ومع توجيه ضربة نوعية باعتقال هذه الخلية، بَدا أنّ حلقة أساسية لهذه المجموعات قد انفرط عقدها، ما دفعها لإيقاظ بعض خلاياها النائمة والبدء بالاعتداءات المسلحة.
صحيح أنّ ما ضَبطه الجيش في الضنية يثير الدهشة ويفتح أبواب التكهنات الواسعة، إلّا أنّ بعض ما نُشر عن اعترافات ميقاتي كان مبالغاً فيه، إن لم يكن مختلقاً في بعض جوانبه، لأنّ التحقيقات معه لا تزال في بدايتها بسبب خضوعه للعلاج بعد كسور تعرّض لها إثر محاولته الفرار من خلال رَمي نفسه من الطابق الثالث عند بدء العملية. لكنّ الخطير هو العلاقة التي كانت قائمة بين هذه الخلية الارهابية ونائب في البرلمان لجهة التحريض على الجيش واستهدافه.
ومع اندلاع اشتباكات طرابلس ومحاولة المسلحين التمركز في أسواقها الداخلية، سجّلت الملاحظات الآتية:
1 – ظهر أنّ الخطة الامنية التي نُفّذت أخيراً، في باب التبانة في ما يتعلق بخلية منصور – المولوي، إنما كانت «مسرحية» بإخراج سيئ، قضَت بتواري هؤلاء مع المسلحين نهاراً، وعودتهم ليلاً الى الجامع بكامل أسلحتهم، ما يضمن حماية تركيبتهم.
2 – كانت التقديرات لأعداد الخلايا النائمة أقلّ بكثير ممّا هي فعلياً. ففي مراحل سابقة كان أحد كبار المسؤولين الطرابلسيين يُردّد أنّ أعضاء هذه الخلايا لا يتجاوزون العشرة، ربما في محاولة للتخفيف قدر الامكان من التركيز على هؤلاء، ليتبيّن مع اندلاع المعارك وجود خلايا تضمّ كل واحدة منها ما لا يقلّ عن خمسين عنصراً، من بينهم سوريون وبعض المصريين.
3 – تولّت قيادة واحدة إدارة حركة هذه الخلايا وتنسيقها، وهذه القيادة تابعة لـ«جبهة النصرة». ووفق معلومات دقيقة، حاولت هذه القيادة دعوة بعض المجموعات الاسلامية المسلحة الموجودة في مخيم عين الحلوة والطريق الجديدة إلى فتح النار بهدف التخفيف عنها في الشمال، لكنّ هذه المجموعات لم تتجاوب. ففي مخيم عين الحلوة أدّت الاتّصالات والتفاهمات بين السلطات اللبنانية والفلسطينية الى رفع الغطاء عن أيّ مُخلّ بالأمن، ما جعل المجموعات والخلايا مكشوفة أمام أيّ قرار. وجاء موقف الرئيس سعد الحريري لينزع الغطاء عن أيّ مُخلّ في الطريق الجديدة.
4 – القرار السياسي، حيث بدا واضحاً القرار الاميركي منع انزلاق الداخل اللبناني الى الفوضى الشاملة. وقد ترجم ذلك بالدعم العسكري المفتوح للجيش الذي يتحضّر لتسلّم دفعات جديدة من السلاح النوعي، من بينه طائرات حديثة يستخدمها الجيش الاميركي حالياً وتتمتع بقدرات عالية للرصد والقصف الدقيق بصواريخ متطورة. مع الإشارة إلى أنّ محركات هذه الطائرات تعمل على المراوح.
5 – جانب أساسي يتعلّق بالقرار السعودي ضَبط الساحة الشمالية انسجاماً مع التفاهم العام الحاصل حول المنطقة. وكانت مُسارعة الحريري إلى إصدار بيانه في هذا الشأن واضحة، وكذلك وزير العدل أشرف ريفي، وبتوجيه مباشر من القيادة السعودية.
وإضافة الى التزام المناخ الدولي في المنطقة، فإنّ القيادة السعودية لا يزعجها «تصفية» هذه الخلايا المسلّحة التابعة ميدانياً لـ»النصرة»، ومالياً وسياسياً للنفوذ القطري الذي يحاول العودة الى الساحة اللبنانية بشتى الطرق.