بالأمس قال الجيش كلمته تحت سقف الدستور وبما يفرضه القانون، حماية حرية التعبير ومنع الإعتداء على الأملاك الخاصة والعامة والحفاظ على السِلم الأهلي. وبلهجة شكّلت إنقلاباً نوعيّاً على الصورة النمطيّة المعهودة للجيش، كأداة قهريّة أو متقاعسة بيد السلطة السياسية، قال العماد جوزيف عون « يريدون الجيش مطواعاً، هذا لن يحصل، نريد الحفاظ على المؤسسة ووحدتها». يدرك العسكريون الذين خبروا تجارب الإنقسام في المؤسسات الأمنية ونموذجها الجيش، أنّ الإنقسامات حصلت عندما شعر العسكريون أنهم ينتمون إلى مؤسسة لا تقوم بما يمليه عليها الواجب، تقاعساً أو تماهياً مع أهداف سياسية منفصلة عن المجتمع ولا تتصل بالمصلحة الوطنية، وهم لن يسمحوا بتكرارها.
أسقطت كلمة قائد الجيش التي أكّدت إلتزام العسكريين بتنفيذ المهام الموكلة إليهم رغم الصعوبات ووضعتهم على قَدم المساواة مع المواطنين أمام الأزمة الإقتصادية الخانقة، عقم الرهانات الغبية التي سوّق لها بعض السياسيين، حول إمكانية التمايز بين القوى الأمنية والمواطنين على خلفية تقديم مساعدات مادية للعسكريين.
قبيل ذلك، وبساعات معدودة، أكّدت السلطة الفاشلة المجتمعة بكل رموزها عقمها وانفصامها عن الواقع. في بعبدا ثمة رئيس جمهورية يؤكّد بعد أربع سنوات حافلة بكل أشكال السقوط، بأنه أتى لإحداث التغيير الذي ينشده اللبنانيون وهو لن يتراجع، في الوقت الذي يفترش فيه اللبنانيون الطرقات ويطالبونه بالخروج من السلطة. هؤلاء المواطنون الذين أفقرتهم منظومة السلطة، تنازعوا منذ أيام أكياس الحليب وغالونات الزيت في المحال التجارية، فيما قوافل المواد التموينية المدعومة من أموالهم تعبر الحدود، لإنقاذ حلفاء السلطة عينها من إجرامهم بحق شعوبهم. بيان بعبدا الذي اعتبر إقفال الطرقات إعتداءً على حرية التنقل ودعا القوى الأمنية لفتحها، إنما كان يحاول دفعها إلى مزيد من الصدام مع المواطنين وأخذ لبنان الى المجهول وإخضاع المواطنين للخيار بين الإذعان أو الفوضى.
تقضي الواقعية المبنيّة على تقدير الموقفين الإقليمي والدولي ترجيح خيار استمرار الوضع الراهن في لبنان لشهور طويلة في ضوء المعطيين التاليين:
الأول، صدور استراتيجية الأمن القومي المؤقتة (US Interim National Security Strategic Guidance) التي وقّعها الرئيس جو بايدن منذ أيام. يقول الرئيس في هذه الوثيقة: «لا نعتقد أنّ حلّ مشكلات منطقة الشرق الأوسط هو في استخدام القوة العسكرية، ولن نعطي شيكاً على بياض لشركائنا الذين يتّبعون سياسات تتعارض مع المصالح والقيّم الأميركية في الشرق الأوسط». أدوات بايدن، كما حددها في استراتيجيته، هي دبلوماسية بامتياز، بحيث تعكس إقتناع إدارته بأنّ الدبلوماسية التقليدية، بعيداً عن العقوبات أو التهديد باستخدام القوة العسكرية، ستضمن حماية المصالح الأميركية على المستوى العالمي. وبالتوازي مع ما يراه بايدن وفريقه بأنّ «الديموقراطية» تشكّل سلاحاً في وجه «الأنظمة الأوتوقراطية المستبدة»، يكرر الأوروبيون ما فعلوه عام 2015 عندما هرولوا لتلبية شروط طهران وغضّ النظر عن سلوكها الإقليمي ضد سيادة الدول العربية، متذرّعين بأولوية التوصّل الى اتّفاقية نووية مع إيران.
الثاني، تبنّي روسيا نموذج «مناطق النفوذ» في سوريا الذي يقضي بتقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ تحت وصاية الرعاة الإقليميين المتنافسين، بحيث تسيطر موسكو على المنطقة الغربية وتسيطر تركيا في الشمال، والولايات المتّحدة في الشرق، وهو ما سيتم على مضض بالنسبة لروسيا. أما إيران فلن تمارس سيطرتها على مجال نفوذ إقليمي محدد، بل سيظهر نفوذها ووكلاؤها في مناطق استراتيجية يسيطر عليها نظام الرئيس السوري بشار الأسد. هذا ما صدر عن «مركز جنيف للدراسات الأمنية».
هذا وقد أعلنت الباحثة الزائرة في المركز المذكور منى يعقوبيان، قبل أيام خلاصة عملها التي بدأته في أكتوبر (تشرين الأول) 2018: «في ظلّ الإفتقار إلى خيارات أفضل، لقد تمّ تبنّي هذا النموذج بمثابة ضرورة وليس اختياراً، حيث تؤكّد الظروف الداخلية الروسية، لا سيما إقتصادها المتعثّر، الى جانب الإنتقاد الدولي الموجّه لنظام الأسد، وتعقيد الصراع السوري، والإنهيار الكارثي لإقتصاد دمشق، على الصعوبات الصارخة التي تواجه الاستراتيجية الروسية.
في ظلّ التوأمة الأميركية بين الدبلوماسية والديمقراطية التي ستعتمدها إدارة بايدن لمقاربة الأزمات في المنطقة، قد تصبح استراتيجية مناطق النفوذ التي ستسمح للقوى الإقليمية كتركيا وإيران بلعب دور مهيّمن، نموذجاً لنهج أوسع في الشرق الأوسط. ولبنان الذي يفتقد نقاط قوته مع نهج السلطة القائمة قد يصبح مرشّحاً متقدّماً لتطبيق نموذج مناطق النفوذ.
ما بين السلطة المصرّة على الإلتحاق بطهران واللبنانيين المصرّين على التمسّك بسيادتهم، نردد مع قائد الجيش إنّ إنقسام الجيش لن يهدد الكيان بالزوال بل سيجعله حالة اختبار لعالم متعدّد الأقطاب، بعد تآكل النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتّحدة.
العميد الركن خالد حمادة*
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات