IMLebanon

توقيف م.م: نموذج عن «وسَطاء الإرهاب الإقليمي»

أوقَف لبنان قبل فترة قصيرة المدعو (م.ع.م)، وهو أردني من أصل فلسطيني ويحمل جنسية دولة ثالثة. ويتّصف نشاطه المشكوك في أنّ له علاقة بالإرهاب، بميزةٍ أساسية، وهو أنّه عابر للدوَل في المنطقة.

يُظهر سِجلّ (م. م) الخاص برَصد حركته الأمنية، أنّه استخدم غير مرّة الأنفاق بين غزّة ومصر للتنَقّل بين القطاع والجمهورية المصرية على نحو غير شرعي، وأنّه تنقّلَ أيضاً في غير دولة، وذلك قبل أن تقبض عليه مخابرات الجيش اللبناني، منذ فترة قصيرة، في لبنان. ويُسجَّل ليقظة المخابرات اللبنانية المواكِبة لنشاطه حتى قبل قدومه إلى لبنان، الفضلُ في إنجاز مهمّة توقيفه لدى دخول الأراضي اللبنانية.

وأبدَى (م. م) شدّةَ مراسٍ خلال التحقيق معه، فهو يُصِرّ على الإنكار تجاه التهَم الأخطر الموجّهة إليه، ويَعترف بالتهَم الأقلّ خطورةً، في محاولةٍ منه لإيهام جهات التحقيق بأنّه لا يكذب، ويُقرّ بما هو حقيقي!

فهو اعترفَ مثلاً بأنّه تنقّلَ غير مرّة بين قطاع غزّة ومصر عبر الأنفاق غير الشرعية، لكنّه أنكرَ في المقابل أنّ لديه أجندةً إرهابية فوق الساحة اللبنانية، عِلماً أنّ المعلومات المتجمّعة عنه والتي تتحدّث عن تنقّلِه عبر الأنفاق بين غزّة ومصر، تتحدّث أيضاً عن أنّ لديه أجندة عمليات إرهابية خطرة يريد تنفيذها في لبنان، وهي تتعلّق باستهداف مصالح تخصّ البلد وأخرى موجودة فيه تخصّ بلداناً شقيقة.

خطورة (م. م) تكمن في أنّه يُقدّم نموذجاً عن «وحدة ساحة عمل الإرهاب» من غزّة إلى ليبيا ومصر فلبنان والأردن، حيث تُقدّم تنقّلاتُه في غير دولة بالمنطقة دليلاً على أنّ خلايا الإرهاب متّصلة عبر مشَغّلين وسطاء من أمثاله. أمّا خطورته الثانية فتتمثّل في أنّ هذا النوع من الإرهابيّين لا يوجد دائماً إثباتات جرمية دامغة حول ارتكاباتهم، ما يؤدّي إلى عدم القدرة قانونياً على الحكم بسَجنهم مدّة طويلة.

وعليه أحيلَ (م. م)، بعد انتهاء الاستماع لأقواله والتدقيق في المعلومات المتجمّعة عنه في المخابرات، إلى النيابة العامة حيث هو الآن رهن التحقيق. على أنّ المتوقّع في نهاية قصّة توقيفه، أن يُرَحَّل إلى آخِر دولة جاء منها إلى لبنان، حيث يفترَض أن تعيد سلطاتها توقيفَه ليُرحَّل في النهاية إلى الدولة التي يحمل جنسيتها.

وبصَرف النظر عن النهاية القضائية التي ستصل إليها قصة (م. م) في لبنان، فإنّ الجهات الأمنية شِبه مقتنعة بتصنيفها له بوصفِه «ناشطاً إرهابياً خطراً» ينتمي أغلب الظن إلى شبكات «الإرهابيّين الوسطاء».

والواقع أنّ التحليل الأمني لحالته والمدعوم بمعلومات يعوز بعضها إثباتات دامغة، يفيد بأنّه يُعتبَر أحدَ نشَطاء «شبكات الإرهابيين الوسطاء» الذين يتنقّلون بين ساحات دوَل مختلفة في المنطقة، وهدفهم العمل على تنسيق الجهد الإرهابي على المستوى الإقليمي وتوحيده.

ومعروف أنّ مثلَ هذا الجهد هو المسؤول عن نجاح تنظيمات إرهابية مختلفة في إنشاء بنية تحتية إقليمية تسمح لها بتبادل الخدمات الإرهابية في ما بينها، وذلك من غزّة إلى مصر فليبيا مروراً بالأردن وصولاً إلى لبنان والمغرب والخليج العربي.

ويُسلّط نموذج الإرهابي (م. م) الضوء على قضية ضرورة تطوير أحكام القضاء في دوَل المنطقة بخصوص الإرهاب، وأيضاً تطوير آليّات عملها بحيث يتعاظم منسوب التنسيق الأمني بينها بخصوص مواجهة الوسَطاء الإرهابيين الذين لا يتركون دائماً أدلّة دامغة على ارتكاباتهم، ويتحرّكون تحت غطاء مدني أو تجاري أو إنساني، ما يُخفي جرمَهم الخاص بمهمّة بناء البنية اللوجستية الإقليمية للإرهاب العابر للدوَل.

وضمن هذه الجزئية تبرز إشكاليتان يُثيرهما النقص الحاصل في التضامن الإقليمي لمكافحة الإرهاب، ما يَسمح لـ«داعش» وغيرها من المجموعات المتطرّفة، بالنفاذ من بين ثغراته لبناء حيثيات لوجستية لها متّصلة، وذلك على امتداد غير دولة في المنطقة.

تتعلّق القضية الأولى بأنّه على رغم أنّ كلّ دوَل المنطقة لديها هواجس أمنية من إرهاب «داعش» و«القاعدة» ومجموعات أخرى، إلّا أنّ مستوى المواجهة لا يزال إلى حدٍّ غير قليل وطنياً (أي كلّ دولة على حِدة) وليس إقليمياً، ويظلّ استنسابياً وغير خاضع لداتا معلوماتية شاملة ومعمَّمة. ويَطرح الروس حالياً صيَغاً لنقاش تعاونٍ إقليمي ضدّ الإرهاب، لكنّ التوافق عليها يصطدم بالتباين السياسي حول ضرورة ربطِه بالتسوية في سوريا.

فتركيا مثلاً تُفضّل تعاوناً أمنياً محضاً بين دوَل المنطقة لرَصد حراك خلايا الإرهاب فوق أراضيها؛ فيما دمشق ومعها بغداد ترفضان الانخراط في أيّ تعاون أمني مع أيّ دولة لا تُقدّم رؤيةً سياسية تربط بين مكافحة الإرهاب وسبل حلّ أزمات ثورات الربيع العربي.

وتريد مصر إلى حدٍّ ما أيضاً، ربطَ الكفاح الإقليمي المشترك ضد الإرهاب بنقاش سياسة أنقرة في مجال دعم الإخوان المسلمين، إضافةً إلى نقاش الإقليميين والدوليين حول موقفِهم من رغبتها في تزخيم تدخّلها العسكري في ليبيا لحماية أمنِها القومي من تداعيات أزمتها.

ومجمل هذه التباينات تُقدّم صورةً عن الفراغات الموجودة في بنية وحدة الموقف الإقليمي من الإرهاب، ما يُعطي خلاياه ومجموعاته فرصةً للعمل فوق ساحات دوَله بشيء ملحوظ من السهولة.

القضية الثانية تتصل بلبنان وقضايا تسَرّب خلايا الإرهاب ونشطائها عبر مرافئه العامّة الحدودية البرّية والبحرية والجوّية. وضمن هذا السياق، يَبرز لبنان ومؤسساتُه الأمنية كواحدة من أبرز الدوَل التي نجَحت في مكافحة الإرهاب بنسبةٍ عالية. ولكنْ يبقى هذا النجاح بحاجة إلى التحصين عبر تعاون إقليمي بنيوي وليس استنسابياً لسَدّ موجة تنقّلات الإرهابيين عبر الحدود.

وفي هذا المجال، تستذكر مصادر مطّلعة اقتراحاً مبكِراً في هذا الشأن، كان البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قد عرضَه قبل نحو عامين في اجتماع لسفَراء دوَل عربية في الديمان، وذلك من باب النصيحة، وقوامُه أن يحصل تعاون بينها لتبادل المعلومات حيال حراك الإرهابيين عبر حدودها، ما يضمن الحدَّ من حركة خلاياها وتنقّلاتها داخل دولِها، وما يؤمّن بذلَ جهدٍ مشترَك لحماية أمن هذه الدوَل في وجه الإرهاب، وهو أمرٌ لا يمكن تحقيقه إلّا بجهدٍ عربي جماعي. وآنذاك وعَد السفراء بنقلِ اقتراح الراعي إلى قياداتهم السياسية، ولكن لا يبدو أنّه تمّ التوافق عليه.

وفي انتظار أن يُصبح التعاون في المنطقة لمكافحة الإرهاب بنيوياً وليس استنسابياً، ويتضمّن داتا معلوماتية أمنية عربية وإقليمية مشتركة حول حراك الإرهاب بين دوَل المنطقة، ستظلّ عملية مكافحة الإرهاب عرجاء ومليئة بثغرات تسمح للإرهابيين بإثبات حضورهم اللوجستي والعملياتي التنفيذي في كلّ دوَل المنطقة.