المواجهة البطولية التي خاضَها جنود الجيش اللبناني وضبّاطه في جرود رأس بعلبك، كشفَت قيامَ جبهةٍ حدودية مفتوحة على احتمالات عدّة، وأعادت تأكيدَ جدّية المخاطر التي تواجه لبنان عند الحدود الشرقية.
لا أحد يعرف أو يجزم بأهداف الهجوم الذي نفّذَه عشرات المسلحين الإرهابيين على منطقة «تلّة الحمرا» في جرود رأس بعلبك. بدأ هذا الهجوم نحو السابعة صباحاً واستمرّ حتى المساء، وكان الهدفُ الموضعيّ السيطرةَ على تلك التلّة، في حين أنّ من يعرف جغرافية المنطقة يؤكّد أنّ السيطرة على هذا المرتفع تعني الاقتراب كثيراً من بلدة «رأس بعلبك» ووضعها تحت التهديد.
ثمّة رأي آخر يتحدّث عن محاولة لربط جرود «رأس بعلبك» بجرود عرسال، ما يعطي المسلحين الموجودين في هذه المنطقة هامشَ تحرّك ومناورة أوسع، بما يساعدهم على شَنّ مزيد من الاعتداءات على مراكز الجيش الموجودة في المنطقة، والبلدات اللبنانية القريبة من تلك الحدود.
يتداول أبناء المنطقة معلومات عن وجود لبنانيين في عداد القتلى من المسلحين، وهذا ما لم يعلَن عنه أو تؤكّده قيادة الجيش. ولكنّ الجميع يتقاطعون على وجود «ثغرات» في عرسال يستفيد منها المسلحون على صعيد الإمدادات واللوجستي والطعام والشراب والمازوت. وبهذا المعنى يَستبعد كلّ مَن يتابع هذا الملف توقّفَ العمليات الإرهابية ومحاولات التسَلّل عبر الحدود نحو البلدات والأراضي اللبنانية طالما إنّ هذه الثغرات موجودة.
هذا النزف في طاقات ودماء ضبّاط الجيش وجنوده مستمرّ بوجود «منطقة عازلة» في عرسال وجرودها يتحصّن فيها المسلحون ويتحرّكون فيها ويزورون عائلاتهم الموجودة في المخيّمات، وهناك شبكة مصالح كبيرة لعدد من أبناء البلدة مع المسلحين، والحال هذه تستدعي مزيداً من القرارات السياسية الداعمة للجيش والمؤسّسات الأمنية، ومزيداً من رفع الغطاء وأيّ حرم سياسي على كلّ الوضع في عرسال.
الأجواء الحوارية بين «حزب الله» وتيار «المستقبل» مفيدة في هذا السياق، والمناخ السياسي العام في البلاد يخدم هذا التوجّه، ومن المستغرب بعد معركة طرابلس والمواقف التي صدرَت في موازاتها، وجود موانع أو تحفّظات عن الانتهاء من الوضع الشاذ في تلك المنطقة.
ثمَّة مَن يربط بين وضع عرسال وكلّ المسار العسكري في جبهة القلمون، وهذا رأي وجيه من حيث المبدأ. التطوّرات اللبنانية الداخلية بمجملِها تسير عكس هذا المنطق، وعليه، يصبح «الإفراج» عن القرار السياسي في شأن عرسال جزءاً من التبريد وعملية إراحة الجيش وعدم استنزافه، خصوصاً أنّ المخاطر الأمنية في الداخل لا تزال قائمة ولا يزال دور الجيش محورياً فيها، وبقاء عرسال وجرودها خارج «الخطة الأمنية» سيجعله في مواجهة مفتوحة وأمام جبهة تستنزفه ويمكن إقفالها بقرار سياسي وتوفير كثير من الجهد والدماء لعناصره وضبّاطه.
إلى ذلك يبقى التنسيق السياسي والأمني مع سوريا، وقد أصبحَ مصلحةً لبنانية قبل كلّ شيء. سوريا تخوض معركةً مع الإرهابيين في تلك المنطقة منذ أربع سنوات، ولديها معلومات استخبارية وقدرات يمكن لبنان الإفادة منها إذا خرج البعض من «عقدة» تنفيذ الاتّفاقات العسكرية والأمنية بين البلدين.
لم يعُد الأمر ترَفاً سياسياً، ولا يصبّ في إطار التحالفات وموازين القوى الإقليمية، بمقدار ما أصبحَ حاجة لاستقرار الحدود، ولعدمِ إبقاء تلك الجبهة مشتعلة في وجه الجيش والقوى الأمنية، وتعريض البلدات الحدودية لمخاطر قد تترك أثراً على الداخل اللبناني.
ألا يخطر في بال أحد من صنّاع القرار اللبناني كيف ستكون ردّات الفعل الداخلية والأثر الخطير لاحتمال أن يجتاح المسلّحون قريةً من القرى اللبنانية؟ ألم نشاهد نماذجَ لاحتلال القرى والبلدات السوريّة والعراقية وتهجير أهلِها وقتلِهم وتعذيبهم والتنكيل بهم؟ هل المطلوب أن يحدثَ أمرٌ مشابه حتى نتّخذ القرار؟
السياسة بالتعريف هي قدرة صاحب القرار على منع الأسوأ، والتعامل مع الاحتمالات كلّها. وينبغي أنّ يعرفَ صاحب القرار اللبناني ذلك ويُدركَ المخاطر كافّة، فماذا ينتظر؟