أهل عرسال ليسوا «داعش». ليسوا «قاعدة». ليسوا «حزب الله». ليسوا «الثورة السوريّة». ليسوا «النظام»… إنّهم لا يُريدون سوى «الخلاص». كيفما أتى هذا، وعلى يد مَن، المُهم أن يأتي. البلدة «مريضة» الآن. هذا حال سنعرفه مِن لسان مَن لم تأخذه سياسة المذاهب. تغيّرت البلدة، ربّما تتغيّر أكثر، تمدّ يدها إلى الدولة، إلى الأحزاب، إلى الجيران، إلى الجميع، لطي صفحة الماضي…
ليُصبح ماضياً فعلاً
يَحفظ كثير مِن اللبنانيين رقم 10452. إنّه مساحة بلدهم بالكيلومتر. لو لم تكن بلدة عرسال وجردها ضمن هذه المساحة لكان الرقم 10000 (تقريباً). إنّها بلدة لبنانيّة أكبر مِن مساحة دولة الفاتيكان (بكثير). يُقال، بحسب الأدبيّات الوطنيّة، إنّ مجرّد شِبرٍ يُساوي مساحة وطن. كُتِبَ شعرٌ كثير في ذلك «الشِبر». قلب البلدة صغير جدّاً نسبة إلى جردها. آخر تُرابها يَبعد عن قلبها نحو 20 كيلومتراً باتّجاه الحدود. مَن يغمز، اليوم، مِن لبنانيّة تلك الأرض، فعليه أن ينتبه لذلك. يستغرب رئيس بلديّة عرسال، باسل الحجيري، مِن «جهل بعض المسؤولين» الذين تناولوا الموضوع. خريطة الجيش ووزارة الدفاع «هي مرجعنا». يُشير إلى أنّ بعض المعارك التي حصلت، قبل أيّام، كانت على مسافة 500 متر مِن المناطق المأهولة (عقبة نوح – المُحرّرة الآن مِن تنظيم القاعدة). كانت هذه مقدّمة لازمة حول لبنانيّة تلك الأرض… لِمَن يهمه الأمر.
ماذا عن عرسال بعد «معركة الجرد» الأخيرة؟
هل ثمّة أصوات غير مخندقة هناك، فلا تتحدّث مِن خلفيّات سياسيّة شائعة، بعد كل ما جرى ويجري؟ نعم يوجد. هم قلّة، بعدما كانوا قبل عقود كثرة وازنة، بل غالبة، ذلك زمن «المدّ العروبي». أصبحوا لاحقاً قلّة، ثم الآن قلّة قليلة، بفعل الخطاب المذهبي، الذي شاع أخيراً في العالم، ولبنان ضمناً. مسعود عزّ الدين واحد مِن هؤلاء. «اليساري العتيق» كما يصف نفسه، صاحب مقلع الحَجَر الذي هُجرِ إثر دخول مسلّحي «داعش» و»النصرة» وغيرهما، والذي يضع نفسه (ورفاقه) على رأس «لائحة العتب». مع بداية الأزمة في سوريا، قبل أكثر مِن 6 سنوات، كان شاهداً على «الأثر الذي حلّ بأهل عرسال. نحو 99 في المئة مِنهم كانوا مع الثورة السوريّة. الآن لم يعد الأمر كذلك، الناس تعبوا، ملّوا مِن كلّ شيء، يُريدون الخلاص على يد أيّ جهة أتى». عانى عزّ الدين، في تلك الأيام، مِن «الغربة» بين أهله، إذ كان ينصحهم بألا يذهبوا بعيداً في خياراتهم، لأنّه يُمكن أن «ندفع الثمن وحدنا».
هذا ما حصل فعلاً. لم تبقَ تهمة خيانة وعمالة و»ردّة» إلا وألصقت به. عندما دخل مسلّحو «داعش» إلى البلدة، واحتلوا مكان عمله، قصد الرقيب المسؤول عن حاجز الجيش اللبناني: «قلت له إنّ ثمّة ما يُحضّر لنا جميعاً، تصرّفوا الآن، فقال لي الرقيب إن الأمور ذاهبة إلى الحل، ولكن ما هي إلا ساعات وكانت المجزرة بحقّ الجيش… والبلدة. كنت أقف على مسافة 50 متراً مِن الحاجز. رأيت كلّ شيء. إلى اليوم لا أزال أشعر بغصّة لعدم قدرتي، أنا وأمثالي، على فعل شيء. كنّا سنذهب فرق عملة». لا يكف عن ذكر تاريخ الثاني مِن آب عام 2014. يعتب عزّ الدين على تيّار المستقبل، الذي «ساهم في تأجيج الخطاب المذهبي، وذلك للكسب السياسي في وجه خصومه، وهنا نحن ندفع الثمن. قلت لهم آنذاك إنّ جارنا الشيعي، في القرى المجاورة، الذي نعيش معه منذ مئات السنين، مستقبلنا معه كبشر بعيداً عن السياسة، وليس مع المُسلّح الآتي مِن العراق مع داعش والنصرة مثلاً». يضيف: «ليت حزب الله أكمل عملية تحرير الجرود التي بدأها قبل عامين، أنا أختلف مع الحزب في اللون، هو حزب مذهبي في النهاية، لكنه ينضبط ويلتزم ويمكن التفاهم معه. عموماً، ليت الجيش هو مَن تولّى هذه المهمة أساساً، لكنهم يقولون إنّ الجيش لا يُمكنه ذلك، وأنا لا أصدّق ذلك، فالمسألة في القرار السياسي للجيش. الآن لا نُريد إلا شيئاً واحداً: نُريد الأمن والأمان وأن تكون الطرقات مفتوحة إلى معاملنا وبساتيننا في الجرد حيث أرزاقنا».
رئيس البلدية، الحجيري، يصف عرسال اليوم بـ»المريضة». تحتاج مَن يداوي جرحها. أن تُعالَج. يُريد مِن الدولة أن «تقف معنا أمنيّاً وإنمائيّاً. ما حصل أخيراً هو عمليّة جراحيّة، ستعود الآن عرسال الوطنيّة والعروبيّة وبعلاقات جيّدة مع الجوار، ونحتاج مِن الجميع أن يساعدنا على ذلك. لعرسال شهداء في جنوب لبنان ضد العدو الإسرائيلي، ولعرسال جثامين شهداء قاتلوا العدو قبل ذلك ودُفِنوا في فلسطين». ماذا عن السياسة والأحزاب؟ يُجيب الحجيري: «هناك مناكفة بين تيار المستقبل وحزب الله، نأمل منهما إبعادنا عنها، لأننا نحن من يدفع الثمن في النهاية. في مرحلة معيّنة طُلِب منّي أن اتّخذ مواقف معينة، ولكن بنيت مواقفي على مصلحة ابن عرسال فقط، ولم أكن ورقة في يد أحد. صحيح أنّ الحزبيّة أفضل من العشائريّة والعائليّة، وهي مطلوبة اجتماعيّاً، إنّما شرط أن تكون حسب الأصول. الآن في البلدة أجواء ارتياح وترحيب، ولكن هناك ترقّب أيضاً. عموماً، عرسال بلدة لبنانيّة وجرد عرسال أرض لبنانيّة، وكلّ لبنان معني بها.» كم يبدو حزيناً أن يضطّر رئيس بلديّة لبنانيّة إلى التذكير بأنّ بلدته لبنانيّة! خلف هذا التذكير ما يُلخّص الحالة النفسيّة اليوم في تلك البلدة. ما يُلخّص تاريخها وحاضرها إزاء «الدولة».
لا يختلف مختار البلدة، كمال عزّ الدين، في تفاؤله الحذِر عن الحجيري. يقول: «نحن قبل الأزمة كنّا بلدة متروكة من الجميع، منسيون تماماً مِن الجهات السنيّة والشيعيّة على حدّ سواء. حتى بالإنتخابات لم نكن نُمثّل كما نريد. رُكّبت علينا تهمة الإرهاب بالقوة، بينما شبّاننا لا يجدون عملاً، بعضهم لا يَملكون ثمن علبة سجائر، هؤلاء انخرطوا في أعمال معيّنة ولكنّي أجزم لك أنّهم ليسوا عقائديين. هناك 250 شابا عرساليا اليوم في السجن. طلبت مِن رئيس الجمهورية ومِن قائد الجيش تجنيد شبّاننا في الجيش، هكذا نحميهم ونحفظهم مِن الضياع، ومِن المخدّرات التي شاعت أخيراً عبر التهريب إلى مخيّمات النازحين السوريين ومِن ثمّ إلى كلّ البلدة». يتّفق المختار مع كثيرين مِن أبناء البلدة بالرأي القائل: «لو كان الجيش هو مَن يُحرّر الجرد لكان هذا أفضل، ولكن صدّقني الآن الناس لم تعد تسأل مَن يُقاتل مَن، لقد ملّ الجميع. يريدون العودة إلى أراضيهم وأرزاقهم كيفما كان». يشرح المختار «المنظومة الاقتصاديّة» في عرسال تاريخياً على الشكل الآتي: 50 في المئة مقالع الحَجَر، 30 في المئة زراعة، وأخيراً 20 في المئة «تهريب بضائع عبر الحدود». هذه «المهنة» الأخيرة لم يعد ممكناً العودة إليها الآن بعدما ضُبِطت الحدود (إلى حدّ بعيد). لن تعود عرسال كما كانت، إذ تغيّرت قواعد لعبة العيش، كما استجدّت بعض «السلوكيّات على الثقافة العرساليّة» إثر الاحتكاك بالعنصر «الداعشي» (النقاب مثلاً، ولو بنسبة محدودة، كما يقول مسعود عزّ الدين). ثمّة ورشة رعاية شاملة تحتاج إليها عرسال الآن… إن أُريد لها العودة إلى الحياة.