لم تكن الخلافات الكبيرة والعميقة حول المفاوضات السورية لتُطيح مؤتمر «جنيف 3». فالقرار الدولي اتّخذ وبالتالي لا مجال لإجهاضه أو إسقاطه. لكنّ الانطلاق في هذا المسار وفق العناوين الموضوعة والتي تلائم الصورة الجديدة لموازين القوى في المنطقة يبقى صعباً جداً، وهو بدا على مواقف القوى المنضوية في إطار المعارضة السورية.
في الحقيقة شكّل مؤتمر «جنيف 3» محطّة الانطلاق الأولى لمسار تفاوضي سيكون صعباً وطويلاً وسيختزن مفاجآت كثيرة صادمة. لكنّ هذه الانطلاقة الأولى التي بالكاد حصلت، أو أنها كانت شكلية أكثر منها فعلية، رُفعت فيها شروط عدة كان أبرزها تحقيق وقف لإطلاق النار مدخلاً الزامياً الى قاعة التفاوض.
لكنّ هذا الشرط لا يبدو قابلاً للتحقّق، أقلّه خلال الاشهر القليلة المقبلة. ذلك أنّ أمام النظام السوري والفريق المتحالف معه أهدافاً لا بدّ من تحقيقها لفرض مسار آمن للمفاوضات الجدّية.
لكن، وفي الوقت نفسه لا تبدو المهلة الزمنية لاستمرار العمليات العسكرية مفتوحة مثلما يتوهّم البعض. طبعاً هذا شيء واستمرار الاضطرابات شيء آخر.
فالهجوم العسكري الذي يستمرّ فيه الجيش النظامي السوري وحلفاؤه مدعوماً من القوات الجوّية الروسية والتقنيات العالية، يكاد يقترب من السيطرة على محافظة اللاذقية بكاملها وهو يتّجه الى فرض نفسه على المناطق المحاذية للحدود مع تركيا، وهو ما يزعج حكومة أنقرة كثيراً.
لكنّ المحك الأساس يبقى في حلب. صحيحٌ أنّ الجيش السوري حقّق كثيراَ من التقدم في ريف حلب من جهاته الأربع، لكنّ هدفه يبقى المدينة والتي يُدرك هو وخصومه أنها تشكل ثقلاً كبيراً يفرض نفسه على صورة الحلول المنتظرة.
وهو في الوقت نفسه يكون قد أسَّس لتكريس «سوريا المفيدة» أو المنطقة القوية والغنية داخل الاتحاد الفيدرالي السوري لاحقاً. لكنّ الأهم أنّ موسكو لا ترغب بالانزلاق في حرب مفتوحة من دون أفق زمني. فهي تخشى الوحول ولا تريد الغرق فيها، ما يعني أنّه بعد حلب تثبيت للمواقع والخريطة الجديدة والاستثمار في السياسة.
وجاءت الاشارة المعبّرة في هذا الاتجاه من الصين هذه المرة. فالرئيس الصيني الذي حرص على توقيت زياراته الى عواصم المنطقة الآن أعطى الإذن لشركتين صينيّتين بتوقيع عقد مع الحكومة السورية بهدف رفع الركام والأبنية المنهارة في المناطق التي باتت تحت سلطة النظام، والعمل على سحب الحديد من الباطون وإعادة ترتيب هذه المناطق.
والمعنى السياسي لهذه الإشارة كبير، فالصين التي تشكل فعلياً القوة الدولية الصاعدة بهدوء وتروٍّ باتت متأكدة من خلال موقعها الدولي الكبير أنّ الحرب تجاوزت مرحلة الغموض وأصبحت واضحة لناحية التقاسم الجغرافي، وبالتالي ثبات «سوريا المفيدة» تحت سلطة النظام ما يسمح بالبحث في البدء منذ الآن مرحلة إعادة الإعمار والتي باكورتها إزالة الانقاض وإعادة تصنيع الحديد وتنظيف المناطق. لكن لا يجب التفاؤل كثيراً قبل جلاء الصورة في حلب وهو الهدف العسكري الأخير للنظام.
لبنان بدوره يتأثر بهذا التناقض في المشهد السوري. فمن جهة يبدو اندفاع تصميم «داعش» إلى انتزاع مناطق «جبهة النصرة» والإمساك بكلّ معابر التواصل مع بلدة عرسال نذير شؤم ومبعث قلق.
وعدا عن تفسيرات البعض بأنّ هذا التنظيم يريد أن يضمن خطوط التموين لعناصره في جرود عرسال والقلمون من خلال التواصل مع بلدة عرسال، إلّا أنّ البعض الآخر يدرك أنّ لـ«داعش» أهدافاً إرهابية في الداخل اللبناني أكثر من «النصرة». فهل هذا يعني أيضاً الإفادة من منافذ عرسال الى الداخل اللبناني والاندفاع وتسريب انتحاريين تمهيداً لموجة إرهاب جديدة توازياً مع معركة حلب المنتظرة.
لكن مقابل هذا القلق الأمني، ظهر بصيص نور في المواقف المتعلقة بالأزمة السياسية الداخلية والتي يبقى الاستحقاق الرئاسي نقطة ارتكازها.
صحيحٌ أنّ المشهد معقّد لا بل ازداد تعقيداً بعد لقاء معراب، لكنّ الجديد جاء على لسان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله. ولا حاجة للقول إنّ الدوائر الديبلوماسية المهتمة بالملف الرئاسي ولا سيما منها الأميركية والفرنسية تحديداً تابعت كلمته وأخضعتها لقراءة معمقة وتمحيص واف.
ويعتقد هؤلاء أنّ السيد نصرالله اختار توقيت كلمته بعد ساعات على انتهاء زيارة الرئيس الايراني حسن روحاني لباريس، فهو كان يريد الوقوف فعلياً على المناخ الدولي وهو قال ذلك ولو بطريقة ذكية حين تحدث عن اتصالاتٍ أجراها هو لمعرفة ماذا تضمّنت محادثات باريس، وذلك في إطار تأكيده عدم علاقة إيران، لكنّه جدّد إرسال إشارته الأساس: «لدينا مطالب فتعالوا وتحدّثوا معنا، فالتوافق مع إيران لا يلغي مطالبنا». وربما قد يكون أراد القول أيضاً «إنّ المناخ الإيجابي مع إيران يفتح الأبواب لكنّ الدخول الى القاعة يحتاج الى الكلام معنا أيضاً».
وفي سياق حديثه، أرسل نصرالله الإشارة الأهم إلى العواصم الغربية: التزام سقف «اتفاق الطائف» وتجاوز فكرة المؤتمر التأسيسي. واضحٌ أنّ العواصم الغربية تحرّكت بقوة منذ إطلاق فكرة عقد المؤتمر التأسيسي وأبلغت في السرّ، كما في العلن، معارضتها لضرب «اتفاق الطائف» بأيّ شكل من الأشكال.
أما الإشارة الإيجابية الثانية، فهي في دعوته تيار «المستقبل» إلى الموافقة على ترشيح العماد ميشال عون، أيْ ضمناً الإقرار بمبدأ موافقة طرفَي النزاع في لبنان على الرئيس المقبل. أيْ أن يأتي الرئيس بطريقة توافقية وليس من خلال فرضه كما حصل مثلاً يوم جيء بالرئيس نجيب ميقاتي الى رئاسة الحكومة بديلاً عن الرئيس سعد الحريري.
وبعيداً عما قيل وكتب حول رسائله الى عون وفرنجية لجهة تمسّكه بالأوّل لحين اعتذاره هو عن الترشح (إذا كان ذلك وارداً) ولكن من دون الضغط على الحلفاء، وإغداق الثناء على الثاني ووصفه بـ»نور العين» والحديث عن وجود ترشيحين جديّين أيْ الاعتراف بالخطة «باء». فأنّ السيد نصرالله قدّم لعون تسهيلاتٍ كبيرة تجري قراءتها بدقة في المحافل الدَولية.
فالاعتراض الدَولي ـ الاقليمي على عون هو بسبب الخشية من الاندفاع الى ضرب «اتفاق الطائف» كما ردَّد عون أكثر من مرة، فهل إنّ الالتزام العلني للسيد نصرالله بالطائف يزيل عائقاً كبيراً من أمامه؟
وقد يكون عون في حاجة الى موافقة تيار «المستقبل» والسعودية، وهو ما التزمه نصرالله أيضاً. ولكنّ المشكلة هنا أنّ النظرة السياسية تتداخل أيضاً مع العلاقة الشخصية والتي هي في أسوأ درجاتها بين الطرفين.
لذلك حاول عون إعادة إحياء علاقته مع الرئيس سعد الحريري، اتصل به وطرح عليه لقاء مع الوزير جبران باسيل الذي يحمل له كلاماً، ووافق الحريري. وبعدما وضع باسيل قيادة «حزب الله» بفكرة اللقاء اتصل من أبو ظبي بالحريري الذي فضل اللقاء بعد يومين في باريس وليس في السعودية. ولكنّ الحريري عاد واعتذر عن اللقاء لأسباب قاهرة واستبدل ذلك بلقاء بين باسيل ونادر الحريري في بيروت جاء سلبياً.
وما من شك في أنّ عون سيتابع محاولاته مع تيار «المستقبل» في وقتٍ يراهن البعض على ليونة قد تصيب هذا الموقف في نهاية المطاف كما حصل في محطات عدة سابقة.
لكنّ خطاب نصرالله تضمّن أيضاً انتقاداتٍ مبطّنة للحليفين لم يتنبه اليها المراقبون، إذ تحدث عن كلام وتسريبات رافقت لقاء فرنجية بالحريري في باريس وبنود تفاهم أخرى بين العماد عون والدكتور سمير جعجع لم يُعلَن عنها. لكنه استدرك قائلاً إنه يثق بما يقوله له حلفاؤه وما أطلعوه عليه. والواضح أنّ الأمين العام لـ«حزب الله» الذي لا يطلق كلاماً في الهواء كان يغمز في اتجاه ما.
وقيل إنّ جعجع اشترط على عون قبل ترشيحه سلّة تفاهمات منها ما يتعلق بطريقة توزيع الحقائب الوزارية للمسيحيين في الحكومة المقبلة، بحيث تكون مناصفة بين «التيار» و«القوات». ومعه فإنّ أيّ تقدم في اتجاه الرئاسة لا بدّ أن يحمل تفاهمات مختلفة لناحية إشراك القوى المسيحية الأخرى ولناحية التوازنات داخل الحكومة.
هذا إضافة الى «غمزة» السيد في اتجاه جزء من قاعدة «التيار» والذي انجرف في إشاعات حول موقف «حزب الله» على رغم وجود تفاهم وتعاون ونضال مشترك عمره أكثر من عشر سنوات، طبعاً من دون أن يكون للمسؤولين علاقة بذلك كما قال نصرالله.
في اختصار، الإستحقاق الرئاسي مؤجّل ولكن ليس لفترة بعيدة.