الرسائل الدولية إلى المسؤولين في هذه المرحلة: «بأيّ ثمن، نريد أن يبقى لبنان هادئاً ومستقراً. دبِّروا أموركم الداخلية بلا أضرار. فالأهم هو ما ينتظركم»!
لم يتنبّه كثير من اللبنانيين، الغارقين في تفاصيل الموازنة والانتخابات والتعيينات، إلى أنّ هناك شيئاً ما يتحرّك بقوة خلف الستارة، ويتعلق بملف النازحين السوريين، ولا بدّ من أن ينجلي قريباً وقد يفاجئ الجميع بتداعياته.
فالفكرة التي يعمل الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب لتنفيذها، أي إنشاء مناطق آمنة للنازحين السوريين في المناطق الحدودية، للحدّ من تدفقهم إلى الغرب، هي محور تحركاتٍ ديبلوماسية وعسكرية حثيثة بين واشنطن وموسكو وأنقرة، وتشمل الأردن ولبنان في اعتبارهما البلدين العربيّين الأكثر تأثّراً بأزمة النازحين.
وضمن هذا السياق، جاءت زيارة قائد المنطقة الوسطى في الجيش الأميركي الجنرال جوزف فوتيل لبيروت، أواخر شباط الفائت، وكشف في اليرزة أنّ الأميركيين مهتمون بالعمل مع الجيش اللبناني لتنمية قدراته في مجال ضبط الحدود وتدفّق النازحين، ويعتبرون أنّ «إنشاء بيئة آمنة، وخصوصاً عند الحدود، يساهم في ضبط هذا التدفّق. فالفكرة قابلة للحياة، ولكن هناك خيارات مختلفة حولها تستلزم النقاش».
هذا الكلام يؤكد التقارير التي أعقبت زيارة فوتيل، والتي تحدثت عن أنّ فكرة «المناطق الآمنة»، كما يجري تداولها، لا تقتصر على الأراضي السورية، بل تشمل الأراضي اللبنانية أيضاً. فالمدى الجغرافي المطروح لها يبدأ في جرود عرسال ويمتدّ شرقاً إلى داخل الحدود السورية، بحيث تصبح بقعة واحدة آمنة، يتولّى رعايتها الجيش اللبناني ضمن الأراضي اللبنانية.
الردود التي تلقاها فوتيل من المسؤولين اللبنانيين لم تكن موافقة بالمطلق على الطرح. فالموقف اللبناني الرسمي، كما عبّر عنه الرئيس ميشال عون، يقضي بأن تكون «المنطقة الآمنة» في داخل الأراضي السورية، ولا تشمل لبنان، تجنّباً للتداعيات المستقبلية.
وفي أيّ حال، المسألة مرتبطة أيضاً بما ستكون عليه نماذج «المناطق الآمنة» على حدود كلّ من تركيا والأردن الذي زاره عون أخيراً، في سياق جولاته العربية التي يبدو ملف النازحين السوريين جزءاً أساسياً من أهدافها.
فالمسائل التي يجب على لبنان حلّها في هذا المجال كثيرة وهي:
1 – ضمن أيّ أُطُر قانونية سيجري إنشاء «المنطقة الآمنة» في لبنان؟
2 – ما السبيل إلى تركيز النازحين في هذه «المنطقة الآمنة»، فيما هم منتشرون بكثافة في كلّ أنحاء لبنان؟
3 – ما طبيعة العلاقة التي ستنشأ بين السلطات اللبنانية من جهة، والسوريين من جهة أخرى. فهل يتمّ التعاون مع نظام الرئيس بشّار الأسد؟ أم مع جهات معارِضة؟ أم إنّ الأمم المتحدة هي التي تتولّى الأمر منعاً للإحراج؟.
4 – إذا كان سلاح الجو الخاص بالدول الحليفة هو الذي يصون أمن هذه المنطقة من الخارج، فكيف يجري ضبط «الأمن الداخلي» فيها، وبواسطة أيّ جهاز، لمنع تسلّل الخلايا الإرهابية وخرقها، في منطقة تحضر فيها التنظيمات الإرهابية بكثافة؟
5 – إذا وافق لبنان، افتراضاً، على فكرة «المنطقة الآمنة» في أرضه، فهل جرود عرسال هي الأنسب لهذه الغاية، أم هناك مناطق أخرى أكثر ملاءمة؟ وهل اختيار عرسال مقصود لتركيبتها الديموغرافية، احتياطاً لظروف يبقى فيها النازحون هناك بلا أفق للعودة؟
6 – هل سيوافق الأردنيون والأتراك على نموذج مماثل في مناطق حدودهم مع سوريا، ووفق أيّ صيغ؟
هذه الأسئلة تجعل ملف النزوح السوري «على النار». ويزاد إليها ما أثير في الأسابيع الأخيرة حول المخاطر المتفاقمة بصمت وبعيداً عن الضوء، نتيجة تزايد أعداد الأطفال السوريين الذين يصنّفون في لبنان قانوناً تحت خانة «عديمي الجنسية المكتومي القيد».
الوزير السابق للشؤون الاجتماعية رشيد درباس قدّر هؤلاء، الصيف الفائت، بنحو 100 ألف طفل، بين النازحين. وفي تقارير أخيرة، تبيَّن أنّ الولادات في أوساط النازحين السوريين في لبنان تقارب سنوياً الـ20 ألفاً مقابل 55 ألف لبناني. وهناك نحو 68% من هؤلاء المواليد السوريين لا يسجلون في قيود رسمية، أي أنهم يبقون في خانة مكتومي القيد.
وسواءٌ جاء اليوم الذي سيعود فيه السوريون إلى بلادهم قريباً أو طال إلى موعد غير محدّد، فإنّ هؤلاء العديمي الجنسية لن يستطيعوا مرافقة أهلهم إلى سوريا لأن لا أوراق ثبوتية في حوزتهم. ولذلك سيضطرون إلى متابعة حياتهم – المعذّبة – في لبنان الذي سيكون أمام ضغوط متزايدة لتشريع أوضاعهم، ما يفاقم مخاطر التوطين الموجودة أساساً.
ولا يخفي الموفدون الدوليون، وعدد من الجهات العربية، رغبتهم في أن يكون لبنان «كبش المحرقة» لمعالجة أزمات النزوح والديموغرافيا، لا في الملف السوري فحسب، بل أيضاً وخصوصاً في الملف الفلسطيني. و«استسلام» الرئيس محمود عباس لـ»أمن اللبناني» في عين الحلوة من أبرز المؤشرات.
وفي الخضم، ثمة مَن يعمل لوضع النازحين السوريين والفلسطينيين في مركب واحد. فبعد عملية «التنفيس» المنظمة لوكالة «الأونروا»، الشاهد على خصوصية الشعب الفلسطيني بحقِّه في العودة، ثمة أفكار لتجيير النازحين السوريين أيضاً للوكالة، بحيث تشمل بخدماتها نحو عشرة ملايين نسمة، غالبيتهم سوريون. وهذا ما يريح إسرائيل من «الأونروا» كشاهد على العودة، ويفرغها من رمزيتها.
وهكذا، قد يجد المسؤولون الغارقون في «ترف» المحاصصات أنهم في صدد قنبلة النازحين التي لا بدّ من أن تنفجر في لحظة ما، وأنّ الأضرار من انفجارها ستكون كبيرة بمقدار ما هم يتلكّأون عن المواجهة الفاعلة والصادقة والجدّية.